السر الأكبر في الحياة
يحمل الموت مزيجاً مدهشاً من الغرابة والتناقض والعجائبية. في الموت تبرز الشخصانية والفردية، فالموت فردي، إذ لا يوجد موت بالوكالة والنيابة. ويعاني الموت كل إنسان على حدة، ويدخل محنة الفناء مندثراً وحيدا لا يشاركه فيها أحب الناس إليه حتى ولو حاولت الزوجة حرق نفسها أو دفنها معه. فالموت ذو اتجاه واحد فلا رجعة منه ولا مخبر بما حدث:
تفانوا جميعاً فلا مخبـــــر
وماتوا جميعا وهذا الخبـــــــر
تروح وتغدو بنات الثرى
وتمحو محاسن تلك الصــــور
فيا سائلي عن أناس مضوا
أما لك في من مضى معتبـر.
فهو باب يُفتح فيمتص ويشفط الكائن مثل الثقب الأسود باتجاهه (فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون – سورة يس).
الدهشة والغرابة في ظاهرة الموت (الفردية ـ الديموقراطية)
وأعظم ديموقراطية تتحقق على وجه هذه الأرض هي ديموقراطية الموت، حيث تذوب الفروق تماماً، فالموت لا يحابي ولا يرتشي ولا يشفع ولا يفرق بين الجنسين، فهو ديموقرطي صارم إلى أبعد الحدود.
وعندما ترتفع الأضرحة والنصب والتماثيل لشخص ما فإن هذا لا يغير في واقعه، أنه يعاني ويذوب ويتفسخ ويتحلل مثل أي صعلوك آخر. ومن هنا تسطع حقيقة إيجابية رائعة للموت، فمع موت الجبارين تتنفس الأرض وترتاح:
باتوا على قلل الأجبال تحرسهم
غلب الرجال فما أغنتهم القلل
واستنزلوا بعد عز عن معاقلهم
فأودعوا حفرا يا بئسما نزلـــــوا
ناداهم صارخ من بعدما قبـــــــــروا
أين الأسرة والتيجان والحـــــــلل
أين الوجوه التي كانت منعــمةً
من دونها تضرب الأستار والكلل
فأفصح القبر عنهم حين سائلهم
تلك الوجوه عليها الدود يقتتـل.
تنسب هذه الأبيات إلى واقعة حدثت في عهد المتوكل حينما اقتحم الجند منزل رجل من آل البيت بدعوى أنه يجمع السلاح؛ فرأوه قائماً يصلي في جوف البيت؛ فحملوه إلى دار الخلافة، وكان الخليفة في مجلس أنس وطرب وشراب، فدعاه إلى الشراب فاستعفى، فقال له أنشدني: فأنشده هذه الأبيات في قصيدة أطول فبكى الخليفة وأمر برفع الشراب وصرفه بدون أذى. يراجع في هذا كتاب أحمد أمين (ضحى الإسلام) العصر العباسي.
ومع موت الصالحين تبكي الأرض والسماء عليهم. جاء في الحديث الصحيح (مستريحٌ ومستراحٌ منه. قالوا يا رسول الله ما المستريح وما المستراح منه؟ قال العبد المؤمن يستريح من نصب الدنيا وأذاها إلى رحمة الله عز وجل. والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب – مروي في الصحيحين. يراجع في هذا كتاب زاد المسلم في ما اتفق عليه البخاري ومسلم للشنقيطي.
الموت: السر الأكبر في الحياة
الحديث عن الموت مزعج وكريه وحافل بالتناقضات، ولكنه مع كل دافع الهرب منه في الشعور أو التفكير؛ قدرٌ مطوق لكل البشر، بل لكل أنواع الحياة، فأوراق الشجر تتهاوى، والنبات يذبل، والعشب يجف، والطير والحيوان يضمر ويستسلم، والإنسان ينهار في لحظة واحدة إلى الصفر، في ظل مأساةٍ مروعة، يقف فيها المرء مذهولاً مندهشاً محتاراً في التفسير، لا تصدق عيناه أن هذا الإنسان المليء بالحيوية والنشاط، الذي يضج بالتعبير والأفكار، المشحون بالآمال والرغبات والأهداف والبرامج والعمل، الذي يشع بالأنس والوجود؛ قد تم اجتياحه وبشكل كامل ومطلق، يطوقه جبروت السلبية الكامل، وظل الفناء، وعالم الاندثار والتحلل والتعفن، ليرجع إلى العدم من حيث خرج منه.
نحن نأتي إلى الحياة بغير رغبة وإرادة ووعي منا، من عمق الظلام ومن حيث لا ندري من العدم، كذلك نودع الحياة بغير رغبة منا ولكن تحت منظر الوعي الكامل، المفعم بالمعاناة والألم، على الأقل لمن حول الإنسان ممن يحبه، لنرجع إلى جوف العدم الذي سحبنا منه.
أسئلة محيرة في معنى الموت وجدلية الموت والحياة
إن الفلسفة تجنبت الحديث عن الموت، وفضلت الحديث عن الحياة، فالحياة وجود وحضور، وينفع فيها التأمل والكلام، والموت عدم، والعدم ليس فيه فضاء للكلام، فالعدم يعني العدم والسلبية الكاملتين لا أكثر ولا أقل؛ ولكن ضغط الموت الساحق، والانهيار المريع للوجود الإنساني المطلق؛ يولد في الواقع كل الفلسفة.
فما معنى الموت؟؟ ولماذا كان الموت؟؟ ولماذا نخاف من الموت؟؟ وماذا خلف الموت؟؟ ومتى تولد وعي الموت عند الإنسان؟؟ بل لماذا جئنا بالأصل من العدم، ليدفع بنا الموت في النهاية إلى عالم الأبدية واللانهاية؟؟ فالذي يموت لن نراه مطلقاً، فهو ليس مسافراً سيعود، ولا غائباً فيظهر، كل ما تبقى منه ذكرياته وبقايا صوره المادية الميتة!!
كيف نفهم جدلية الموت والحياة ؟؟ وهل أصل الوجود يقوم على الموت أو الحياة ؟؟ وكيف نرى صورة الموت في الحياة، والحياة في الموت؟؟ وكيف يتجلى التناقض المدهش والمحير بين سحق الطبيعة للفرد، بدون أي رحمة وبين المحافظة على النوع الإنساني بكل إصرار، على حد تعبير الفيلسوف شوبنهاور (SCHOEPPENHAUER)؟؟ وتدخل الغريزة الجنسية في هذه اللعبة كأداة مسخرة، تضحك فيها الطبيعة على الإنسان، بإغراءٍ ملِّح لا يعرف التوقف، من أجل المحافظة على دفعات الإنجاب؛ فمع ظلال الموت الكئيبة، تنكفئ النفس إلى الخلف والسلبية، وتزول البهجة وتتوقف دوافع الحياة الأصلية، وتستسلم النفس إلى كل مشاعر الإحباط والقنوط والشعور بعبثية الحياة.
الفلسفة الوجودية والعبثية
إن الفلسفة الوجودية رأت في الموت عبثية الحياة، فما فائدة كل زخم الحياة، وروعة عبقرية الإنسان المتألقة؛ إذا كانت نهايته كعشب جاف وحيوان أعجم؟! ويبقى كل تأمل في ظاهرة الموت حسيرا عاجزا، فهناك شيئان لا يمكن التحديق فيهما: الشمس والموت.
لقد عبر الفيلسوف البريطاني برتراند راسل عن هذا الشعور بكلمات مغموسة بالألم والقنوط فقال: (ولأن تعجز أي حماسة مشبوبة أو بطولة أو أي حدة في التفكير أو الشعور عن الأبقاء على حياة فرد واحد فيما وراء القبر، ولأن يكون الاندثار هو المصير المحتوم لكل عناء الأجيال ولكل التفاني ولكل عبقرية الانسان المتألقة تألق الشمس في رابعة النهار، كل هذه الأمور إن لم تكن حقاً غير قابلة للجدل فإنها مع ذلك تقترب من اليقين إلى حد يستحيل معه على أي فلسفة ترفضه أن يكتب لها البقاء، وعلى ذلك لا يمكن بناء موطن الروح بأمان إلا في إطار هذه الحقائق وعلى أساس راسخ من القنوط المقيم. كتاب العلم في منظوره الجديد ـ سلسلة عالم المعرفة رقم 134 ـ تأليف روبرت أغروس وجورج ستانسيو ـ ترجمة محمد الخلايلي ـ ص 16.
أسباب الخوف من الموت
ولكن لماذا يخاف الانسان من الموت؟ هل هذا الأمر طبيعي وهناك ما يبرره؟ لقد انكب علم النفس على هذه الظاهرة فحصرها في أربع مخاوف رئيسية، وأمكن استخراج أربعة أبعاد مستقلة لقلق الموت هي: 1 ـ الخوف من المجهول 2 ـ الخوف من المعاناة 3 ـ الخوف من الوحدة 4 ـ الخوف من التلاشي الشخصي. واختصر هذه المخاوف الفيلسوف الإسلامي ابن مسكويه في كتابه تهذيب الأعراق وتطهير الأخلاق في فقرة متألقة على النحو التالي:
يعد الموت أعظم غموض وأكبر سر يواجه الإنسان، وبديهي أن يصاب الإنسان حياله بضرب خفي من القلق الممض الذي لا حل له؛ فذكر الفيلسوف (ابن مسكويه): (أن الخوف من الموت ليس يعرض إلا لمن لا يدري ما الموت على الحقيقة؟ أو لأنه يظن أن بدنه إذا انحل وبطل تركيبه فقد انحلت ذاته وبطلت نفسه، بطلان عدم ودثور، وأن العالم سيبقى موجوداً وليس هو بموجود فيه، أو لأنه يظن أن للموت ألماً عظيماً غير ألم الأمراض التي ربما تقدمته وأدت إليه وكانت سبب حلوله، ولأنه يعتقد عقوبة تحل به بعد الموت، أو لأنه متحير لا يدري على أي شيء يُقدم بعد الموت، أو لأنه يأسف على ما يخلفه من المال، وهذه كلها ظنون باطلة لا حقيقة لها. أما من جهل الموت ولم يدر ما هو على الحقيقة؛ فإنا نبين له أن الموت ليس بشيء أكثر من ترك النفس استعمال آلاتها وهي الأعضاء التي يسمى مجموعها بدناً، كما يترك الصانع استعمال آلاته، وأن النفس جوهر جسماني وليست عرضاً، وأنها غير قابلة للفساد – قلق الموت ـ سلسلة عالم المعرفة ـ عدد 111 ـ تأليف أحمد عبد الخالق ـ ص 213 ـ منقولة عن كتاب تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق.
حديث موسى مع ملك الموت
كراهية الموت هذه وعدم الترحيب بها وصلت إلى درجة أن نبي الله موسى لم يرحب بملك الموت، بل وجه إليه صفعة أطارت عينه، مما جعل ملك الموت يرجع إلى ربه ليقول: أي رب أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت!! حسناً ماذا يريد إذاً؟ إذا كان يريد المزيد من فسحة العمر فلا بأس ولكن ليس للخلود في هذه الدنيا، فهذه الحياة مركبة على أساس الزوال والتغير والتحلل والفساد. ارجع إليه فقل له ليضع يده على متن ثور فله بكل شعرة سنة ؟!! كان جواب موسى: ثم مه؟ أي ثم ماذا؟ أي ما الذي سيعقب رحلة العمر الطويلة الجديدة هل تحمل الخلود في تضاعيفها؟ أم في النهاية الموت والاندثار؟ كان جواب الملك واضحاً صاعقاً: ثم الموت !! فهو الجبروت الساحق الماحق!! قام موسى بما قام به علماء النفس في تحليل النفس الإنسانية وكيف تمر بخمس مراحل في صراعها تجاه الموت قبل الاستسلام إليه، فاستسلم فأجاب: فالآن.
(الحديث مروي في الصحيحين في كتاب زاد المسلم المصدر السابق ونصه أن ملك الموت عندما زار موسى عليه السلام صكه ففقأ عينه!! فرجع إلى ربه فقال أي رب أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت؟! فقال ارجع إليه فليضع يده على متن ثور فله بكل شعرة سنة. فقال أي رب ثم مه؟ قال: الموت. قال: فالآن. فلو كنت ثَمَّ لأريتكم قبره بجنب الكثيب الأحمر).