خالص جلبي
في البدء يجب أن ينتبه القراء المغاربة للمقالة أن العلويين في سوريا لا علاقة لهم بهذا المسمى في المغرب، وهناك من يطلق عليهم النصيريين.. وقرأت في ما سبق للكاتب اليساري العظم، وهو ينتقد الفكر اليساري ويشير إلى شيء اسمه العلونة السياسية في سوريا، نسبة إلى العلويين الذين التهموا سوريا مثل ساندويش شاورما.. وأخطر ما حدث مع الربيع العربي أن سوريا تدمرت ليس في الأبنية، ولكن في النسيج الاجتماعي فتمزقت شر ممزق. وفي القرآن سورة كاملة تحمل اسم حضارة قامت وبادت في اليمن، حين قال القرآن: فمزقناهم كل ممزق وجعلناهم أحاديث فبعدا لقوم لا يؤمنون. واليوم لم يبق الفلسطينيون مشردين، بل لحقهم السوريون أيضا على قائمة التمزق والتشرد. والفرق بين النسختين أن الفلسطينيين عدوهم واضح من بني صهيون، ولكن المرض السوري أدهى وأمر بالسرطان الداخلي. فالاحتلال أمره سهل، مثل احمرار الجلد بالالتهاب السطحي، فيتظاهر بالألم الموضعي والاحمرار والحرارة ومعالجته هينة. أما السرطان فهو على العكس تماما ينتشر بدون ألم ويتسرب خفيا لواذا، وينتشر على غفلة مثل الورم القتاميني (Melanoma وحمة أو شامة الجلد)، وإذا اكتشف مبكرا فعلاجه الاستئصال الواسع، وإن تأخر قضى على المريض فلا عودة. كذلك هو حال السرطانات الاجتماعية، كما هو الحاصل في سوريا. تضم قائمتها الحالية البتر والهرب والديكتاتورية الطائفية البغيضة. لحسن الحظ الأفراد يموتون، ولكن المجتمعات لا تموت، بل تنهض من رقدة الموت ولو بشكل مختلف، وهو الذي سيحصل مع سوريا حتى نهاية القرن الحالي. وحين تفجر الربيع العربي، دخلت سوريا منعرجا خطيرا في الانزلاق إلى مستنقع أشد هولا من كل ما مر من التسلح والاحتراب الدموي، المستنقع هو الطائفية وليس المرض الوحيد. وعلينا وضعه تحت مبضع التشريح لفهمه. وكان ابن خلدون بارعا حين وضع عنوانا لمقدمته في اعتراف غير مباشر بالتعددية، حين قال كتاب «العبر وديوان المبتدأ والخبر في أخبار العرب والعجم والبربر ومن عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر».
الطائفية مرض مثل الخراج الخفي، موجود في أكثر من قطر عربي، والكل يعلم به. والكل يكذب فلا يعترف به إلا همسا للرفاق والإخوان. والكل يكذب على الكل. والكل يصر على الأسنان للانتقام يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلا من رحم ربك اللطيف المنان. ومن ينطق به يحاكم بتهمة الطائفية، فيندم على اليوم الذي ولدته فيه أمه ويقول: يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا. وأفضل علاج له الاعتراف به، كما أن أفضل علاج للخرَّاج فتحه للخارج. وإلا فتح نفسه للداخل، فأصيب المريض بتسمم دموي فمات به. ولكن هل اعترف البابا ألكسندر السادس بأنه مصاب بالزهري، وأن سببه الزنى؟
والعالم العربي مصاب بمرض الطائفية وآخر من شكله أزواج، من أمراض (القبلية) و(احتقار المرأة) و(الإيمان بالغدر) و(تأليه الزعيم) و(عبادة القوة).
لقد دخلت مستوصفا قميئا في الجولان السوري، فرأيت 17 صورة للثالوث المقدس من الأب والابن والروح القدس، أعني كلا من حافظ الأسد واثنين من أولاده، وهي صور مكررة في معظم مطارات العروبة، في إحياء لمركب الأقانيم الوثني في ديار تزعم أنها إسلامية. ويتحول نظام الحكم إلى شكل فرانكنشتاين ليس فيه مقومات الحياة، إلا أن يقتل؛ كما قتل بيده من أوجد فرانكنشتاين، كما حصل مع دوللي النعجة المستنسخة. ووضع العرب هذه الأيام يذكر بجو دول الطوائف في الأندلس، أو جو الفرق المذهبية قديما، بين (معتزلة) و(شيعة) و(خوارج) و(مرجئة) و(قدرية) في خمس شعب، لا ظليل ولا تغني من اللهب.
فأما الشيعة فقد رفعوا من قدر علي وذريته؛ فزعموا أن القمر نزل في حضنه، وأن في دمه كريات حمراء مختلفة مقدسة. وأما الخوارج فكفروا الجميع وقَتَلوا وقُتِلوا. وأما المرجئة فهم السياسيون الملاعين والعسكر الخائبين، الذين يرون أن الله يغفر الذنوب جميعا، ولو قتل القاتل أمة من الناس. يكفي أن يلوك الإنسان كلمات سخيفات بلسان مصاب بالآفت (القلاع). وأما القدرية فقالوا بالحرية الإنسانية المطلقة، ودوروا القمر والشمس بأصابعهم، وعلى هذه الفكرة ذبح الجعد بن درهم. وأما المعتزلة فحاولوا تحريك العقل، في وسط يموت، فماتوا مع الأموات، إلى يوم الدين.
واليوم تنهض هذه المذاهب بكل أمراضها وعيوبها، من التوابيت، وترجع إلى الحياة، ونحن مذهولون من هذه الرؤية غير المتوقعة، لجثث تدب فيها الحياة مذكرة بالزومبي.. ونقول يا ويلنا من بعثهم من مرقدهم؟
وما جري في العراق وسوريا وباء طام، يهدد كل المنطقة بطوفان نوح، من المذابح الطائفية والمذهبية، فبعد أن سبح العرب طويلا في قذارات النتن القومي البعثي، يتحول زورقهم المنكوب إلى مستنقع أشد هولا وقذارة؛ من المذابح الدينية، باسم الله والصليب، وعلي والحسين، والحاكم بأمر الله الفاطمي، في رحلة انقلاب في محاور الزمن، نكسا إلى العصور الوسطى الظلماء. وهكذا فبدل دخول الحداثة؛ ينتكس العرب على وجوههم، عميا وبكما وصما، مأواهم جهنم الطائفية، كلما خبت زدناهم سعيرا.
وإذا كان صدام قد حول البعث العراقي إلى ماكينة للعبادة الشخصية، بتجنيد المرتزقة والعشيرة، فقد فعل البعثي الآخر الأسد من فصيلة السنوريات في سوريا الأسد، بتجنيد الطائفة والعصابة من الأزلام إلى ماكينة للعبادة الفردية.
يضاف إلى كل حزمة الأمراض السابقة من الأمراض تسلط ديناصورات أمنية تقذف بشرر كالقصر، تذكر بملائكة العذاب عليها تسعة عشر. منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك.
نافذة:
اليوم لم يبق الفلسطينيون مشردين بل لحقهم السوريون أيضا على قائمة التمزق والتشرد والفرق بين النسختين أن الفلسطينيين عدوهم واضح من بني صهيون ولكن المرض السوري أدهى وأمر بالسرطان الداخلي