شوف تشوف

الرأي

السجون الأربعة وهامش الحرية

بقلم: خالص جلبي

نحن نولد مسجونين بحكم مؤبد في قفص البايولوجيا، مربوطين إلى سلاسل النسبية للبعد الرابع «الزمن»، أسرى في أغلال الثقافة وإكراهات المجتمع. نحن خلقناهم وشددنا أسرهم. ندخل أجسادنا فنتسربل فيها، محكومين بالجينات تشكل قدرنا، من صحة ومرض وجمال وتشوه. «الجينات» الشيفرة السرية للخلق، تعطينا لون العينين وطول القامة وقسمات الوجه ولحن الصوت، كما تحدد طول العمر من خلال ساعة مبرمجة على رنين منبه الموت، مع كل انقسام كرموسومي. الجينات في الخلايا تحدد العمر، والاستعداد لمرض السكر، والميل إلى التسرطن، وخلل فقر الدم المنجلي. نحن سجناء عالم بيولوجي بقفل أثقل من نجم نتروني، في قدر لا فكاك منه. علينا أن نتنفس وإلا اختنقنا، أن نأكل ونشرب وإلا هلكنا. وأن نمارس الجنس وإلا انقرضنا. يطحننا المرض وتفترسنا الشيخوخة، علينا أن نمشي على الأرض بقانون الجاذبية فلا نستطيع الانتقال بسرعة الضوء في استحالة يفرضها قانون النسبية، باستهلاك طاقة لا نهائية وتوقف كامل في مربع الزمن. نحن نرزح تحت ثقل قوانين الفيزياء، تحكم بقبضتها على رقابنا في أغلال إلى الأذقان فهم مقمحون. نحن نأتي إلى الحياة بدون إرادتنا، ونخرج منها بدون إرادة ورغبة بعد أن ذقنا حلاوتها، في نقطة ضعف تسلل منها الجبارون لمسك رقاب العباد.
نحن نولد في «عصر» نعيش ثقافته لا نتحكم في وقت المجيء إليه في ثانية واحدة منه تقديما وتأخيرا، تدفعنا يد جبارة إلى مسرح الأحداث فنشارك على خشبة مسرح، ثم ينتهي دورنا فنمضي وندلف إلى مستودعات النسيان فلا تسمع لهم ركزا.
اعتبر الفيلسوف الفرنسي (باسكال) أن الإنسان يسبح في اللحظة الواحدة بين العدم واللانهاية، فهو كل شيء إذا قيس بالعدم، وهو لا شيء إذا قيس باللانهاية، وهو بعيد كل البعد عن إدراك الطرفين؛ فنهاية الأشياء وأصلها يلفهما سر لا سبيل إلى استكناهه، وهو عاجز عن رؤية العدم الذي خرج منه واللانهائي الذي يغمره.
نحن لا نستطيع ركوب آلة الزمن فنعود إلى زمن الانبياء، كما لايمكن القفز فوق حاجز الزمن فنعيش بعد ألف سنة. نحن محكومون بأجل لا فكاك منه، وزمن نعيشه مفروض علينا لا يخترق إلا بطريقة واحدة: الخيال. هكذا تصور دافينشي الطائرة، وكتب جول فيرن قصة 20 ألف فرسخ تحت الماء، ورفض المسيح عليه السلام مملكة بيلاطس بقوله: «مملكتي ليست من هذا العالم».
نحن أسرى «ثقافة» ننتسب إلى حوض معرفي يبرمج عقليتنا، ويمنحنا الدين الذي نمارس طقوسه، ويشكل شجرة المعرفة عندنا محروسة بلهيب نار وسيف يتقلب. نحن نستحم فنخلع كل ملابسنا، ولكننا في الشارع نلبس كل الملابس، تحت مفهوم اجتماعي هو ستر العورة. المجتمع يمنحنا الدين فنعتنقه. من يولد في بافاريا في جنوب ألمانيا قد يخرج كاثوليكيا، ومن يولد في طوكيو قد يكون من جماعة سوجو جاكا البوذية، ومن يولد في جنوب العراق قد يكون شيعيا. كذلك كان الانتساب إلى منطقة ما قدرا ندفع فيه الثمن من مصائرنا؛ فمن يولد في رواندا يهرس كموزة في حقل، أو يمشي بساق خشبية وذراع معدنية في أفغانستان، أو هاربا خارج وطنه بجواز سفر من الدومينيكان أو الأرجنتين، أو لاجئا سياسيا في السويد وألمانيا، أو مهاجرا كنديا إذا أسعفه الحظ والمال، أو قد يكون من السعداء النجباء من شريحة الـ5 في المائة له كل المال وكل الامتيازات، يساق له رزقه رغدا بالعشي والإبكار، في بلد هي مزرعة له ولعائلته.
مع هذا فإن هامش الحركة في (المكان) و(الفكر) و(اللغة) أفضل من البايولوجيا، فقد يفر عراقي إلى بريطانيا مبدلا وطنه، وقد يعتنق فنان بريطاني الإسلام مغيرا عقيدته، كما قد يتعلم طبيب أردني يختص في الغرب اللغة الألمانية، ويرتفع الإنسان بالعلم بدون حدود فيتخلص من الطبقة والفقر.
نحن نظن أننا أحرار في المجتمع وهذا أكبر من هلوسة؛ فنحن في الواقع مكبلون بأشد من أصفاد اليدين والرجلين؛ فالوسط ينحت لغة الطفل في تلافيف الدماغ، وآباؤنا يحددون لنا القدر البيولوجي لأجسادنا ومعها المجال مفتوحا لكل الاحتمالات والاستعدادات. والمجتمع يهبنا المعادلة الاجتماعية بعد البيولوجية، فيجعل من الفرد بشرا سويا، كما يفرض علينا السلوك السوي، ويعاقبنا إذا خرجنا عن القانون بأشد من معاملة الدجاج وهي تبصر الدم في دجاجة مجروحة فتنقرها حتى الموت. وعندما يشذ الفرد عن القطيع يعامل بالسخرية والأذى والاتهام بالجنون والنفي على ثلاثة أشكال: من ظهر الأرض إلى قبر السجن، ومن دفء الجماعة إلى برد العزلة، أو من شاطئ الحياة إلى سفينة الأموات مع أنوبيس في العالم السفلي.
مع هذا فلا يتقدم المجتمع إلا بهامش الحرية الضئيل هذا من خيال الأفراد المبدعين، يتجاوزون بخيال مجنح إشكاليات القضبان والمعتقلات، فيتنسم في حديقة الدماغ رؤى المستقبل في إمكانيات جديدة واختراعات مبتكرة ونشأة محدثة في تطور سفر الإنسان. وعند هذه الزاوية الضيقة تتشكل جدلية الحركة بين ثبات المجتمع كعلاقات تشريحية، وحركته كفيزيولوجيا وتطور. العقارب تعيش على ظهر البسيطة بدون تغير يذكر في نمط حياتها، منذ 400 مليون سنة. ولكن الحيوانات محكومة بنسيج فولاذي آسر للتصرفات، تعيد دورة إنتاج نفسها بدون أي تقدم، مثل القطار المحكوم بالمشي على القضبان لا يخرج منها إلا لمواجهة حادث مروع.
ثقب العين صغير ومنه يرى الإنسان العالم، ومن هذا الثقب لا يرى إلا الضوء العادي في شق ضيق من عالم فسيح من طيف الموجات، ما يرى منه عشر معشار ما لا يرى، لم يكن غريبا أن أقسم القرآن على ما تبصرون وما لا تبصرون. مع كل هذه المحدودية للرؤية، فإنه يفهم قوانين الكون ويطور ببصيرته بصره، فيرى توهجا لامعا للنجوم من عمق محيط الكون على مسافة تسعة مليارات سنة ضوئية.
الإنسان كمبيوتر مختزل لكل الوجود في داخله، يحمل إمكانيات تطور بدون توقف، فيه شريحة كمبيوترية من روح الله، مزود بوثيقة وكالة عامة من الخالق لاستخلاف الكون.
كان الفيلسوف إقبال يناجي ربه حزينا: «يا رب هذا الكون لا يعجبني»، فيأتيه الجواب: «اهدمه وابن أفضل منه».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى