الرّحمة طريق إلى الرّحمن الرحيم
لا يتوقف الفيلسوف المغربي طه عبد الرحمن، صاحب مؤلفات «سؤال الأخلاق» و«روح الدين» و«روح الحداثة» و«بؤس الدهرانية» عند الحديث، أن الرحمة تختص بأولئك الـﺫين لحقهم ضرر، وهـﺫا غير صحيح تماما: فالرحماء لا يكتفون بصرف الأﺫى عن المضرورين، بل يتعدونه إلى إيصال المنافع إلى أولئك الـﺫين لا يتعرضون لضرر ملحوظ، بل قد يكونون سالمين راضين؛ ومن هنا، فالرحمة، حسب الفيلسوف طه عبد الرحمن، تتجاوز الإسعاف بالحاجات إلى الانتماء للقدرات، أي أنها تتسع لما يدخل في باب زيادة الخير والتنمية والتقدم.
ومن ثم فإن الرحمة لا تتعلق فقط بالإنسان وحده، فما يزيد من المنفعة والخير والتنمية والتقدم ليس الإنسان فحسب، بل كل تلك الأهداف تتعلق بأشياء أخرى تحيط بها الطبيعة، وإﺫا فسدت الطبيعة ودمرت لا خير ولا تنمية ولا تقدم للبشرية.
فكما أننا نرحم بني جنسنا، فأيضا يجب أن نرحم الأشياء التي من حولنا، ورحمتنا لها كما يقول طه كرحمتنا للإنسان، نوعا وقدرا، إﺫ ندفع عنها هي الأخرى الشرور ونجلب لها الخيرات، حتى نحفظ كيانها ونضمن بقاءها.. من سائر تلك الأشياء كما قلنا الطبيعة التي تجملها والبيئة التي نقصدها هنا. والغريب أن هـﺫه الأشياء لا تقف عند حد تلقي الرحمة منا، بل إنها لا تنفك تبادلنا هـﺫه الرحمة، هـﺫا إﺫا لم تبق رحمتها رحمتنا، فهل ـ يقول طه ـ من رحمة أسبق من أن يحتضن واحد منها ـ وهو هـﺫه الأرض الأم ـ وجودنا ولما نحصل الوعي بهـﺫا الوجود، إﺫ نكون ما زلنا في غيب الأرحام!
إن الحلول المقترحة لتجاوز المخاطر التي تهدد سلامة البيئة والإنسان (مثلا) لا يمكن أن تتجسد بمجملها في العقل الأداتي، أو العقل العلمي، لأنها وكلاهما معا يتصفان ببرودة الأحاسيس والمشاعر وفراغ العاطفة وانسلاخ الوجدان.. فرابط الصلة بين الإنسان والطبيعة ـ بيئته الأولى والأخيرة هـو الرحمة؛ فبقدر ما تمارس الرحمة بين الناس والطبيعة نقترب إلى السعادة! والقضية بعيدة هنا عن العداوة للعقلانية، لكن حسبي أن أؤكد أن العقلانية المجردة من الرحمة ـ العقلانية الأداتية على الخصوص ـ والتي تتعامل مع الإنسان كآلة ومع الطبيعة كـ«دولاب» ملابس.. عقلانية باردة؛ لهـﺫا فكارثتنا أخلاقية مع الطبيعة قبل أن تكون شيئا آخـر!
هذا الكلام يتقاطع إلى حد ما مع حكمة ابن عطاء الله السكندري عندما يقول: «خير ما تطلبه منه ما هو طالبه منك». يقول أحمد بن عجيبة في شرح هذه الحكمة، من خلال كتابه الماتع «إيقاظ الهمم في شرح الحكم» إن الذي طالبه منا هي الاستقامة ظاهراً وباطناً، ومرجعها إلى التحقيق العبودية في الظاهر وكمال المعرفة في الباطن.
أو تقول: «الذي هو طالبه منا إصلاح الظاهر بالشريعة قياماً برسم الحكمة، وإصلاح القلوب والأسرار الباطنة بالحقيقة قياماً بوظائف القدرة».
أو تقول: «الذي طلبه منا امتثال أمره واجتناب نهيه والإكثار من ذكره والاستسلام لقهره»، فالأكمل في حق العارف أن يستغني بعلم الله ويكتفي بسؤال الحال عن طلب المقال، فإن تجلي فيه وارد الطلب فخير ما يطلبه من سيده ما هو طالبه منه، وهو ما تقدم ذكره. ثم إذا طلبت منه فاطلب منه طلبه منك وهو الطاعة والاستقامة، وإذا لم تساعفك الأقدار ومنت منها قبل أن تسأل، فإن لم تنهض إليها بقلبك وتأسفت عليها بنفسك فذلك علامة الاغترار كما أشار إلى ذلك ابن عطاء الله السكندري في حكمة أخرى، «الحزن على فقدان الطاعة مع عدم النهوض إليها من علامة الاغترار».
وحسبي أن العارف متى كان كذلك صار قلبه رحيماً بخلق الله، كل الخلق وليس فقط الإنسان الذي يفهم عادة من كلمة «الخلق». وإن كان الحزن لا بدّ منه فهو على محبة الناس، وعلى قلوبنا المتحجرة .. أو هي أكثر من الحجر، حتى صرنا اليوم نعتقد الصوم «ترمضينة»، إنما الحزن الحقيقي على زمن أو عمر مضى منّا لم نخطو فيه خطوة إلى الأمام، إلى توسيع دائرة الرحمة بين الناس بعضهم البعض، حتى تمتد وتمتد!
أمّا حزن الكاذبين، الذين يبكون النهار طلباً لمعونة دولية أو ما شابه فلا يشبه إنسانيتنا في شيء. وحزن الصادقين هو حزن مصحوب بمحبته.. حزن على ما فاتنا من فرص للتقريب بين الثقافات والشعوب. و«إن أكرمكم عند الله أتقاكم».