الريسوني: فاوضت قايد «موگادور» والمنبهي أطلق سراحي بعد وفاة الحسن الأول
يونس جنوحي
«عندما ظهر رجال المخزن في آخر الطريق، تأملتُ بندقيتي مليا وقلت لنفسي:
-ذاك الواقف على اليمين يبدو مُسنا لن يصلح لشيء، فأطلقت عليه النار وأرديته قتيلا.
انطلق وابل من الرصاص نحوي ومرت الطلقات مثل الصراصير فوق رأسي، لكن في ذلك الزمان لم يكن جنود المخزن يستعملون أداة التصويب في بنادقهم، لذلك لم تصبني طلقاتهم ومرت بعيدا. ثم إن المخبأ الذي كنت فيه وفر لي الحماية.
أطلقت عليهم النار مرة أخرى، فسقط منهم رجل آخر يتلوى على الأرض ويصرخ.
وقفتُ ضاحكا عندما لم يستطيعوا إصابتي، وصرت أصيح فيهم:
-ألا تعرفون أنني مولاي أحمد الريسوني وأنه لا رصاص ولا فولاذ يمكن أن يؤذيني لأنني أملك بركة خاصة من الله؟ انظروا.. لدي عشرون رصاصة هنا. وبكل واحدة منها سوف يموت رجل منكم.
صدقوني. فقد كان منهم من قاتل ضدي في الجبال سابقا. سمعت أصواتهم وهم يتحدثون. ولم يطلقوا النار في اتجاهي. وبعد فترة توقف إطلاق النار، جاء العامل وتحدث في محاولة للإقناع:
-أنت واحد ضد ثلاثمائة رجل. ماذا بإمكانك أن تفعل؟ استسلم وأعدك بأن أشفع لك عند السلطان.
كان المشهد مثيرا لفضول سكان المدينة الذين تجمعوا على أسطح المنازل لكي يتابعوا سجينا مكبلا بالسلاسل يتفاوض مع العامل الذي يترأس جيشا. كان قدري يومها ألا أتمكن من الهرب لأن البحر كان ورائي وقوات المخزن أمامي.
في الحقيقة، كان بإمكاني قتل المزيد منهم، لكن كان لدي شك في قدرتي على الهرب لأن أطراف السلاسل والأغلال كانت تعيقني وتثقل خطواتي. على كل حال، كانت فترة من شبابي قد سُرقت مني، واخترتُ أن أحيا، فقد كانت لدي أسبابي الخاصة.
لذلك قلتُ للقايد:
-أريدك أن تقسم لي بالله أنك سوف تضمن لي إطلاق سراحي، واقرأ الفاتحة عهدا بيني وبينك، بحضور هؤلاء الجنود، وسوف أسلمك نفسي.
نفذ ما طلبته، وقطعت وعدا أمامه أيضا بأنه سوف يجد رفاقي في عملية الهروب. وقلتُ له:
-لقد هربوا على متن قارب.
الكذب مسموح به أحيانا.
سلمتُ نفسي للقايد وأخذوني للعودة إلى السجن على ظهر بغل، لأنني لم أكن قادرا نهائيا على المشي خطوة أخرى».
في نهاية هذه القصة التي حكاها لي الريسوني، و«لوّنها» كما أتصور، لكي يعيد الاعتبار لنفسه، نظر إلي بشكل مُريب وقال:
-أريد أن أوضح لكِ أنني إذا عذبت الناس، فلأنني تعرضت للتعذيب أيضا. لكن هذا الأمر بيني وبينك. هذه أمور لا يُمكن أن تقال عن الشريف».
قايد موگادور حافظ على وعده. وبوفاة المولى الحسن الأول ومجيء ابنه عبد العزيز إلى الحكم مكانه، لم يكن صعبا العفو عن «مجرم» من العهد السابق. يجب الحفاظ على هيبة الريسوني لكي يكون حليفا قويا لممثل وحيد للسلطان في طنجة مثل محمد الطريس. هذا الأخير أضاف شفاعته إلى شفاعة القايد. الوزير المكلف حينها كان هو المنبهي. كان رجلا حكيما وعادلا. وكان له تأثير كبير على الوضع السياسي في المغرب.
عندما كان يكتب أمر إطلاق سراح الريسوني كتب أولا ديباجة عن صداقة استمرت لفترة طويلة وتطورت لكي تصبح عملا ومصالح. فقد كان الاثنان يتقاسمان مصالح مشتركة في الأرض والممتلكات. ووفقا لما قاله لي الريسوني، فإنه غادر السجن مشبعا برغبة في دراسة ماهية الحياة وفهمها. فقد قال لي:
«كنت أتمنى لو أنني أعيش في مكان منعزل حيث لا يوجد شيء سوى الشمس والفضاء المفتوح. وتمنيتُ أيضا لو أنني كنت أسمع أصوات النساء يثرثرن في مواضيع عادية عن حياتهن اليومية. اسمحي لي أن أقول إن أحاديث النساء عموما وكلامهن لا تثير اهتمامي كثيرا. لكن في السجن يفقد الإنسان الإحساس بمنطق تناسب الأفكار. عشتُ في البداية في طنجة، حيث جمعتُ عددا من الكتب، لأنني نسيت الكثير من الأشياء في سجن «موگادور»، وأردت أن أدرسها مجددا».