الثقافة ليست لعبة. وهي، أيضاً، ليست تجريباً عشوائياً. كما أنها ليست ادعاءات فارغة. ولا هي ارتجال مبتذل. الثقافة هي روح الأمم. وهي من هذا المنطلق فعل جوهريّ في الحضارة، أياً كان المكان الذي ننظر منه إليها. لكننا عندما ندقق في ما نرى من مظاهر ثقافية عربية معاصرة لنا، وبالخصوص، في كثير من الأنشطة الثقافية المصاحبة لمعارض الكتب العربية، سنشعر بنوع من الخذلان العميق، الذي يكاد أن يكون انفجاراً. لكأن المسؤولين عن هذه النشاطات التي تظل مرمية في الهامش، معنيون بالدرجة الأولى بتَتْفيه الثقافة، بدلاً من تبجيلها. أو كأن الهدف الأساس منها تقديم عروض مشهدية تصلح للفرجة العابرة، أكثر مما تدعو إلى تحريك العقل، وإغناء المخيّلة الإبداعية عند مَنْ يسمح لهم «وقتهم الفارغ» بالمرور عليها.
الثقافة جدل اجتماعي حَيَويّ، ونهج معرفيّ صارم. وهي أكبر من أن تترك بين أيدي السلطات الثقافية أياً كان دورها ومرادها. لأن السلطة ستجعل من الثقافة سلعة في النهاية. وستستبدل العلاقة الثقافية الجدلية بين الأفراد، التي من المفروض فيها أن تتُمّ بشكل تفاعليّ محتدم في الفضاء العام، ستستبدلها بعلاقتها المسيطرة على «الوضع الثقافي»: علاقة الأم الرؤوم بأبنائها «المهيّئين» لقبول هيمنتها. وستضع نفسها، بالنسبة لمنتجي الثقافة وصانعيها، في وضع مَنْ يُحسن إليهم، ويرعاهم. وهو ما يشوّه الإبداع، ويحطّ من قيمة المبدعين.
وعي السلطة أياً كان نوعه، محدود حتى في أكثر الدول تقدماً وحضارة. وهو، غالباً، مناقض لوعي الفرد، وبالخصوص في المسألة الثقافية. لأن السلطة، مهما كان اتساعها، هي هيئة ضيّقة. وكل همها هو أن تحقق «الإجماع» لنفسها، وتكسب الوقت، لتؤمّن استمراريتها الأبدية. و«محرّك» السلطة الثقافي لا يهتم إلاّ بـ«جدوى الثقافة للسياسة». وهو ما نلاحظه، حتى عند السلطات التي لا تعاني مبدئياً من هذا الرُهاب: رهاب الانقلاب المحتمل عليها، ذات يوم. وعلى الرغم من أن هذا المنظور «المُجدي» منظور سكوني، خامل ومناقض لنزْعَة التطوّر والتحرر والاختلاف، فإن كثيراً من مظاهر الثقافة العربية اليوم، تابع بشكل مباشر وحصري «للسلطة العربية الواحدة» التي تُركِّز سياستها الثقافية على «قاعدة الجدوى» هذه. ومع الأسف، فإن أكثر المبدعين العرب يبدون سعداء بلعبهم دور «المثقف المجدي» للسلطات التي تستغلّهم. وهو ما يجعلنا نخشى أننا سنظل نخوض في وحول مستنقعاتنا الثقافية، متحمّلين أسوأ العواقب الإبداعية، والمعرفية، إلى أمد طويل.
عائق الثقافة العربية الذي لا يبدو الخلاص منه قريباً، إذن، هو وقوعها فريسة بين أيدي سلطة لا تأبه كثيراً بها، وتطلب منها ما ليس هو من ماهيتها: الخضوع والاستيعاب والحيادية الإبداعية، إزاء الأزمات الإنسانية التي يعاني منها المجتمع العربي عميقاً. تريد تزييفها بعد تكييفها. وفوق ذلك، تسهِّل إغراقها بطوفان من المطبوعات المستعادة التي لا تعني فعلاً ثقافياً مبدعاً، وإنما تؤكّد هيمنة المبتذل، فقط. في هذا الطوَفان الكتابي العارم نقرأ وجه السلطة الخفيّ، وربما خديعتها بإيهامنا بأن الحرية الثقافية في متناول الجميع، مع أنها، في الواقع، «تمحو» المبدعين الحقيقيين الذين تدفعهم جيوشها من «كَتَبة الظل» إلى الوراء على الرغم منهم.
هكذا، نرى أن «ثقافة السلطة المقيّدة» لا تحدِّد عقولنا، وإبداعنا حسب، وإنما تُقيّد حركتنا الجسدية أيضاً. وعلى العكس منها، فإن نقيضها، «الثقافة المحرّرة» تجعلنا نحب أفكارنا وأجسادنا، وتدفعنا لنكون «ضد كل شيء تقريباً».
وفي النهاية، تخلّص المبدعين من ضغوط السلطة، ومن أضرارها البالغة، يتطلّب وعياً جذرياً من المبدع المستغَلّ، وطاقة هائلة على الفعل المستقل عنها. لأن الوعي بلا فعل لا وجود له. مع ذلك، نحن نعرف أن «الوعي المجرد» لا يكفي، ونعرف، أيضاً، أن تحرر الكائن الاقتصادي هو أساس كل تحرر، لهذه الأسباب، ربما، ولكثير غيرها، ستظل السلطة الثقافية العربية مطمئنة، وقادرة على احتواء الفكر العربي المعاصر، واستيعاب صانعيه «حتى إشعار آخر».
* طبيب جرّاح وروائي سوري
خليل النعيمي *