شوف تشوف

الرأي

الذخائر 1080 ربيع عربي أم شتاء وأوحال؟

 

بقلم: خالص جلبي

 

بدأ الربيع العربي مع عام 2011م، كنت يومها في السعودية أعمل رئيس وحدة في جراحة الأوعية الدموية. جاءني «إيميل» من شباب من سوريا يدعونني إلى المشاركة في الانتفاضة القادمة. تعجبت وتساءلت، أولا تعجبت أن يكون ثمة من يفكر في أي نشاط سياسي في بلد قتل فيه الإنسان والزمان والمكان والبيئة والعلم على يد البعث العبثي. ولكن سؤالي لمن أرسل كان من أنتم؟ أجابني من كتب باحترام أنه يقدر هذا السؤال، ولكنه لا يريد الإفصاح عمن هو، هو خلف الزلزال القادم. قلت له لا أريد السير خلف إمام مختفي لا في السرداب ولا في التنظيمات السرية المسلحة. كان الشيعة في التاريخ يلجؤون إلى مثل هذه الأساليب عن الإمام السري إمام الزمان، خوفا من بطش السلطات الزمنية التي كانت ترصد مثل هذه التحركات عبر التاريخ، ثم ينتفضون انتفاضة دموية تقود أحيانا إلى رجم الكعبة بالمنجنيق، كما حصل في الصراع بين الأمويين وعبد الله بن الزبير أو الصراع  بين محمد ذو النفس الزكية والخليفة العباسي الأول؛ وفي أجواء الصراع السياسي يجند كل فريق كل الأدلة العقلية والنقلية لصالحه، ومنها أيضا مشكلة الحديث عبر التاريخ، فقد كُتب الكثير من الأحاديث المكذوبة والموضوعة في ظل الصراع السياسي، مما دفع العلماء في العصر العباسي إلى الاستنفار وتأسيس علم كامل هو علم الجرح والتعديل، ولقد كتبت عنه مقالة في جريدة «الأخبار»، وأنا أمضي في طريق تأسيس منهجية النقد الذاتي. ما حدث بعد ذلك أن الانفجار في سوريا تأخر إلى درجة أن البراميلي قام فخطب، كما فعل فرعون من قديم الزمان حين قال أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون، أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين، كناية عن موسى لأنه لم يكن ذلك اللسن في الحديث، وهو السبب خلف طلب موسى أن يرسل له هارون فهو أفصح مني لسانا يصدقني. وهي فلسفة التبليغ، فيجب أن يكون من أوسط القوم وأن يكون لَسِنا لبقا عظيم النشاط والصلات مع البشر.

خطب بشار البراميلي يومها وقال ألا ترون أن العالم العربي يترجرج ونحن هنا في سكون وأمان. لأن الشعب يحبني؟ ما شاء الله. كان الوضع يذكر بسكون المقابر قبل أن تبعثر القبور ويقول الناس مالها. خلال سنوات سبع عجاف كان مصير الأسد قد ختم عليه. أذكر من المجرم أنني رأيته في المنام وهو مضطرب جدا، فقدمت له قدحا من حليب كي يهدأ، ولعلها الرسالة التي أرسلتها إليه بالاسم في مقالة بعنوان يا بشار اضرب بيدك باب التاريخ، وذكرته بقصة الملك آشوكا الهندي الذي كان جبارا فتحول إلى ملاك رحمة، وبعد القتل والإساءة للناس بلغت به الرحمة أن فتح مشافي لمعالجة القطط والكلاب رحمة بالخلائق. المشكلة في الحاكم أنه لا يحكم لوحده، بل كما جاء في سورة «النمل» أنهم رهط وحددهم القرآن بـ9 وكان في المدينة تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون. قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله. أقسموا بالله أن يقتلوا نبي الله! والبراميلي معه مجموعة من عتاة المجرمين الذين ولغوا في دماء السوريين نصف قرن، وظنوا أن التاريخ أصبح لهم وأنهم أصبحوا ملوك الزمان، ولكن هيهات هيهات لما يوعدون.

المهم أن البلد انفجر مثل برميل بارود من احتقان دام نصف قرن، لذا لا نامت أعين الطغاة الذين يظنون أن الزمان أصبح طوع بنانهم. انفجرت الأمور واقترب البراميلي من الحشرجة، فما كان منه إلا أن باع البلد مقابل أن يحافظوا له على عرش ميت مثله، وطبعا سنده القوزاق والفرس، ولكنهم سيضحون به مثل كبش أملح (حولي) في يوم العيد. متى هذا؟ علمها عند ربي ولكن هذا توقعي له من آية من سورة «العنكبوت» التي تقول وكلا أخذنا بذنبه؛ فلن يفلت من العقاب وستكون النهاية وخيمة لثلاثة، الطغاة والغزاة والغلاة. وبعد بيع البلد فقد تحولت سوريا التي نعرفها إلى جثة بيد تسعة أطراف، من ترك وعجم وأحفاد ريتشارد قلب الأسد والكرد المغرر بهم وشبيحة ونبيحة وجيش حر وفصائل بعشرات الآلاف من المقاتلين، ولا ننسى فصيلة الدمويين من الدواعش الفواحش.

ومع كتابة هذه الأسطر في نهاية فبراير من عام 2018م تدك الغوطة الشرقية دكا؛ فكانت هباء منبثا، وكأننا في يوم الحشر، كما وصف القرآن مناظر القيامة ونهاية العالم.

أكثر من ذلك (الأكراد) يزحفون من مدينتي التي ولدت فيها (القامشلي) ويتمددون بمساعدات أمريكية من خيل وركاب تقودهم قيادات لا توصف أنها نزيهة، وحلمهم التهام الشمال السوري حتى مياه المتوسط.

الأتراك العثمانيون يحلمون بأيام سليمان القانوني، يمدون أيديهم بغصن الزيتون، يحاصرون عفرين، ويقطعون الطريق على الكورد غرب الفرات، وكأننا أيام صراع بيزنطة وفارس.

الروس يقرقعون في السماوات بطيران، وعلى الأرض يكرسون احتلال القوزاق للشاطئ اللازوردي في حميميم وطرطوس. أحفاد ريتشارد قلب الأسد يعسكرون في أكثر من زاوية. وتتحول سوريا إلى جثة تتعاور عليها ذئاب الغابة العالمية.

يهلك من السوريين مئات الآلاف، ويمزقون شر ممزق كما جاء في محكم التنزيل عن سبأ بسورة كاملة، ومزقناهم كل ممزق وجعلناهم أحاديث.

من الغريب أن من هرب إلى السويد وألمانيا حمل مشاكله معه، فهم هناك يتقاتلون ويتناحرون. كما روى لي أخي الهارب إلى السويد، منذ ربع قرن. قال إنهم جيل البعث التعيس.

فعلا نحن نعيش في الغابة العالمية، بين أسد أمريكي ودب روسي وتنين صيني وفيل هندي ونمر ياباني وضبع إيراني وذئب تركي ونسر أوربي وثعلب صهيوني وجمل عربي وقرد إفريقي.

أما الوطن أو ما تبقى منه فهو يضم مسكينا ويتيما وأسيرا، بين مواطن أعمى ومثقف مدجن وصحافة مرتزقة وفقيه غائب عن العصر وحاكم أطرش في سيمفونية تجيدها مخابرات العالم العربي، صم بكم عمي فهم لا يعقلون.

الربيع العربي تحول إلى شتاء وأوحال. الأصنام القديمة خلعت ملابسها ولبست ثياب أعياد كرنفال ممل، وجاءت عساكر جديدة بهمة جديدة، ليعتلوا صهوة بغل مطهم من أيام المماليك البرجية، هذه المرة المماليك الانقلابية بأسماء من جمهوريات هي أبشع أنواع الأنظمة الشمولية. الفرق بين كوريا وسوريا مثلا حرف واحد فقط.

النظام في دمشق اعتاد القتل فالأسد الأب دمر مدينة، والأسد الابن دمر بلدا بأكمله. الأسد الأب قتل في حماة أربعين ألفا وفي سجون مثل تدمر أنهى حياة عشرات الآلاف بقتل منهجي منظم وبصورة يتوقف العقل ويتجمد عن فهم لماذا يفعلون ما يفعلون؟

الابن هجر عشرة ملايين وقتل مليونا، كل ذلك من أجل أن يبقى في الحكم بأي شكل وأي ثمن وأطول فترة. إنه زمن التيه والخوف، إنه زمن الضياع في ذاكرة التاريخ، إنه زمن اللامعنى والتفاهة.

من الغريب ولا غرابة أن العالم يتفرج على الأطفال وهي تقتل، الناس تختنق بالغازات السامة، البيوت تتهدم على رؤوس الساكنة، وكل ذلك موثق بالصوت والصورة، والغرب الديموقراطي يتفرج بعيني ضفدع.

الشعب السوري والعربي عموما يدفع ثمن الفاتورة عن النوم التاريخي الطويل حتى يستيقظ؛ فليس مثل المعاناة منخسا لقوم يشخرون.

لم يكن اليهود ليبنوا دولتهم ويكون لها أسنان نووية لولا الهولوكوست. الشعب السوري اليوم يحترق بالهولوكوست العربي. ويقطّع كما جاء في الحديث حين أنذر نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم من حوله، أن الوقت ليس بالبعيد، حين نتحول إلى طعام ثريد، في مائدة عامرة، يتحلق حولها أقوام شتى، من القوزاق الروس والفرس والعجم وأحفاد ريتشارد قلب الأسد فيأكلونها وهم يتسامرون ويتغامزون قد علت قهقهتهم الحانة.

جاء في الحديث: يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها. قالوا: يا رسول الله أو من قلة نحن يومئذ؟ قال: لا بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن. قالوا يا رسول الله وما الوهن؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت.   

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى