الدين والمؤسسة الدينية
أطلق ماركس اليهودي على الديانة في القرن التاسع عشر أنها أفيون الشعوب، وتحول أتباعه مع الوقت إلى مدمني حشيش وهيرون لديانته؛ فقتلوا تحت تأثير الأفيون والحش والحشيش الشيوعي في قرن واحد مائتي مليون من الأنام، كما جاء في «الكتاب الأسود» بقلم الشيوعي المخضرم (ستيفان كورتوا)، وذبح ماوتسي تونغ الصيني خصومه إلى القرابة السابعة، ولو كان شيوعيا بدعوى التطهير العقائدي، ومات في المسغبة والثورة الثقافية ثلاثون مليونا، كما كتبت ذلك الشيوعية المرتدة (تشانغ يونغ) في كتابيها «البجعات البرية» و«ماو»، وأصبح قرآنهم كتاب «رأس المال»، وربهم من دون الله كارل ماركس، ونبيهم لينين.. أما بولس الرسول فكان (ستالين) ذا شوارب الصقر الجزار الدموي المعروف، ولبس ماوتسي تونج عباءة (بطرس) الرسول، وخط بيمينه «الكتاب الأحمر» كما فعل بولس مع حوارييه حين كتب رسائله إلى أهل كورنثة وافسوس. ولحقهم في هذا من العرب الكثير، فابتكر جورج حبش الطبيب الماركسي بدون طب، موضة خطف الطائرات وتفجيرها، ففجر وجر على العالم كارثة، لم تتعاف منها مطارات العالم أجمع، ويفتش اليوم أحفاد حبش مثل ديك الحبش. والرجل عاش عند الرفاق في دمشق، ومات في 26 يناير 2008، ولكن ما صنعته يداه طبع العالم بالرعب إلى ألف سنة أو يزيدون، وسيبقى في السطور مثل قصة الإسماعيلية وشيخهم قصاب الانتحار والاغتيالات الحسن الصباح في قلعة ألاموت في إيران، وتابعه شيخ الجبل السوري سنان صاحب قلعة قدموس والحصن. ومع موضة الانتحار الفلسطينية، انتقلت عدواها من أفغانستان إلى طاجكستان، ومن جزر أندونسيا إلى قطارات مدريد ومحطات لندن، وفي بغداد قامت امرأتان بتاريخ أول فبراير 2008 بتفجير نفسيهما في سوق للأطفال والدراويش، فقتلتا في ست دقائق 64 شابا وطفلا ومسكينا، ولم يبق من الانتحارية إلا رأس تبرز منه عينان منغوليتان؛ فقد تجند الحمقى والمغفلون بيد الخبثاء والمتعصبين. وفي 13 نونبر من عام 2015 كنا على موعد مع هجوم انتحاري في باريس أخذ معه إلى المقابر 129 إنسانا قادتهم الصدفة المشؤومة إلى مسرح كاتبلان.
وعلى مسيرة ساعة من مدينة فيلادلفيا في أمريكا، توجد طائفة اسمها (الآميش)، شكلها إنساني ومسلكها خرافي، فهي متوقفة في الزمن في القرن السادس عشر للميلاد، في متحف حي، يركب فيه الناس الحمير والبغال، ولا يستخدمون الكهرباء والتلفون والسيارة، ويعتبرون أن التعليم الحديث قرن الشيطان.
وعندما يمر (الحنطور) المتثاقل من العصور الوسطى، يتوقف طابور السيارات للتأمل، كما يفعل الناس في السفاري، فيدهشون لرؤية القردة والنمر والزرافة؟
وأهم ما فيهم أنهم مسالمون، ويتحملون سخرية الناس بصبر، ويعيشون على هامش المجتمع، فينتجون ويبيعون ويترزقون مضطرين مع من حولهم من الزوار، الذين يتأملون بدهشة تلك التحفة المتجمدة في مربع الزمن، مثل المومياء ولكن بشكل مجتمع، ويحميهم المجتمع الأمريكي كتحفة أثرية، يزورها الناس مثل زيارة المتاحف والسفاري.
وهذا النموذج له ما يشبهه في بلد عربي، فقد سمعت أنه في القصيم من السعودية في قرية الحمر، توجد طائفة يقودها مهندس، اختص في أمريكا، ثم كفر بكل الغرب والعصر، فرجع إلى عصر الحمير والبغال والبئر، ولا يتعاملون بالنقد بل بالمقايضة، في انقذاف إلى الخلف مقداره عشرون ألف سنة مما تعدون، ولكن مجتمعه يختلف عن (الآميش) في أنهم عدوانيون، ولا يسمحون بزيارة وتأمل وبيع وشراء، ويقاطعون المجتمع كلية، ويكفرونه، ولا يأتيهم أحد في مقابلة، أو تنقل أخبارهم مجلة وجريدة، أو يأتيهم الناس كما في جماعة فيلادلفيا، التي زرتها، وتحدثت بالألمانية مع بعض أفرادها، فأصولهم البعيدة التي هاجرت كانت من الألمان؛ فهي ما زالت تعيش نفس الوقت الذي نزحت فيه إلى الأرض الموعودة، بعيدا عن تعصب القارة العجوز.
ومن الغريب أن الذي شكل مجتمع (الآميش) وغير (الآميش) هي المفاهيم الدينية المتشددة.
التدين يشه الملح من جانب؛ فبدون الملح يفقد الطعام كل نكهة، وبدون التدين تنقلب الحياة إلى عبثية لا معنى لها، وإلحاد يقود إلى الانتحار.
وليس من مجتمع بشري مر على وجه الأرض إلا تدين بشكل ما، واستغلته المؤسسة الدينية بشكل ما، من كاهن ومفتي وحاخام وبابا، بملابس مزركشة ونفخ ومدلاة وبخور وماء مقدس وتراتيل وهمهمات.
وبقدر حاجة البدن الضرورية إلى الملح، بقدر تسممه إذا زادت الجرعة عن حد معين.
وإذا أخطأت الأم في مطبخها؛ فوضعت كمية كبيرة من الملح في الطعام، عافته نفوس أطفالها مع كل حبهم لطعامها، فهذه هي جدلية التدين والتعصب. إذا أخذ التدين بجرعته المناسبة على نحو فردي وأخلاقي أنعش الكيان، ومنح الإنسان زاد التقوى ومعين الصبر، وألغى عبادة الأشخاص، وحرر المجتمع من الدجل والدجاجلة.
وإذا زادت الجرعة انقلب الوعي إلى تعصب، والعلاقات إلى عداوات، والحياة إلى جحيم لا يطاق من المحرمات. ومؤسسات تضحك على الناس؛ فتزين للناس أشكالا من الحياة لا تطاق، باسم الله..
ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب.. وهم يكذبون على الله في السر والعلن، ويجندون الناس للجبت والطاغوت. ويترتب على هذه المهزلة برمجة الحرب وانقسام الناس إلى شيعتين:
ـ من يؤمن بالقتل وسيلة لحل المشاكل، كما في داعش وفاحش وعصائب الحق، وحزب يحتكر اسم ذي العزة والجلال، أنه الممثل الشرعي الوحيد له؟ ويدخل في هذا الصنف بوش ورامسفيلد وفرعون ذو الأوتاد.
ـ ومن لا يبسط يده بالقتل ولو هُدِّد بالقتل، ويدخل فيه الأنبياء وغاندي ومالكولم إكس وسقراط وروزا باركس.
إن كلاً من (الفيزياء) و(الكيمياء) و(الطب) و(علم النفس) و(قوانين المجتمع) ترفدنا بشواهد على هذه السنة النفسية الاجتماعية. فزيادة البوتاسيوم أو نقصه في الدم يقود إلى توقف القلب بالاسترخاء أو الانقباض. ونقص الكالسيوم يفضي إلى تكزز العضلات. وزيادة النحاس في الدم يقود إلى تشمع الكبد بمرض ويلسون. وجرعة من الخوف ضرورية للحفاظ على الحياة، ولكن زيادتها تدفع إلى الجنون. والتشدد في الدين تطرف وجنون بدون مصحات عقلية. فهذه القيمة الحدية للأشياء، ضمن وسطها المناسب الذهبي، تعطي الحياة نكهة ومعنى وجرعة توازن.
وإن من شيء إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم.