شوف تشوف

الرئيسيةثقافة وفن

الحيوان بين الرمز والإبداع الأدبي

إعداد وتقديم: سعيد الباز

شكّل حضور الحيوان في الآداب العالمية ظاهرة لافتة للنظر قديما وحديثا، إذ لم يكتف الأدب بتوظيف تيمة الحيوان في إطار واقعي واضعا الحدود الفاصلة بين الإنسان والحيوان على مستوى الوعي والإدراك، بل امتدّ ذلك إلى تحميله أبعادا رمزية بعيدة. ومن جهة أخرى كثيرا ما اتّخذ الحيوان في الأعمال الأدبية وسيلة لتصوير الطبيعة البشرية وطبائعها كالمكر والخداع في صورة الثعلب، والشجاعة في صورة الأسد أو البلادة والغفلة في صورة الحمار… إنّ هذا الحضور القوي والكثيف منحنا عدة أعمال أدبية متميّزة، يكفي أن نذكر، على سبيل المثال، في الأدب العربي «كليلة ودمنة» المنسوب إلى ابن المقفع وذئب الفرزدق أو فأر شاعر الحمراء محمد بن إبراهيم، وغربيا قط إدغار آلان بو وغرابه أو شارل بودلير وطائر الباتروس فضلا عن قططه في الكثير من قصائده… وغير ذلك من الأعمال الروائية والقصصية والشعرية المتعددة التي خصصت للحيوان مكانة رفيعة وموقعا أساسيا في الأدب العربي والعالمي.

 

لوكيوس أبوليوس.. تحوّلات الجحش الذهبي

تعتبر رواية «تحوّلات الجحش الذهبي» للكاتب لوكيوس أبوليوس أقدم رواية في تاريخ الإنسانية. تدور أحداثها في الشمال الإفريقي بين تونس وليبيا الحاليتين. بطل الرواية شاب مهتم بالسحر والشعوذة كان يرغب في أن يتحوّل إلى طائر لكن لسوء طالعه ولخطأ ما مُسخ جحشا. الرواية أيضا كانت سابقة لعصرها بطابعها الغرائبي والعجائبي الذي جعلها تنافس أكثر الأعمال الأدبية الحديثة كرواية التشيكي فرانز كافكا «التحوّل» وغيرها من التحف الأدبية الأكثر غرابة وعجائبية:

«… وقفتُ أخفق بذراعي اليسرى في البداية ثم اليمنى، كما رأيتُ «بامفيلي» تفعل، لكن لم يظهر عليهما ريش ولا زغب، ولم يبد عليهما أنّهما تحولتا إلى جناحين، كلّ ما حدث أنّ شعر ذراعي اخشوشن شيئا فشيئا وتيبس جلدهما وصلب، بعدها تجمعت أصابعي لتصير كتلة واحدة وصارت يداي عبارة عن حافرين، ولحق التغيير نفسه في قدمي، وأحسستُ بذيل طويل ينبثق من أسفل عمودي الفقري عند العصعص، ثم انتفخ وجهي، واتّسع فمي، وتدلت شفتاي تتأرجحان، وانتصبت أذناي طويلتين يعلوهما الشعر… وأخيرا لم يكن لي إلّا مواجهة الحقيقة المميتة وأنا أتفحصّ نفسي، لم أتحوّل إلى طائر، بل تحوّلتُ إلى جحش أوضح ما يكون! أردتُ أن ألعن «فوتيس» على خطئها البليد، بيد أنني وجدتني عاجزا عن الكلام، أو حتّى الإشارة. فظللتُ أصبّ جام غضبي عليها بتحريك شفتي السفلى والنظر إليها شزرا بعيني الكبيرتين المليئتين بالماء!

عندما رأيت «فوتيس» ما حدث لطمت وجهها بيديها الاثنتين في نوبة من تأنيب الذات وأعولت: «أواه… هذا كفيل بأن يقتلني لابدّ أنني في غمرة حيرتي وذعري أخطأتُ الصندوق، هناك صندوقان متشابهان تماما، ومع هذا فليست الأمور يا عزيزي من السوء كما تبدو، لأنّ الترياق في هذه الحالة أسهل شيء الحصول عليه، كلّ ما عليك أن تمضغ بعض الورود فتعيدك حبيبي «لوكيوس» من جديد. لو أنني أعددتُ أكاليل الورد هذه الليلة! إذن لوفرتُ عليك أن تبقى جحشا وإن ليلة واحدة. عند أوّل تباشير الفجر، أعدك بإخلاص أن أخرج وآتيك بما تحتاج إليه». ومضت تلعن نفسها مرة بعد مرة لغبائها وعدم حيطتها، ورغم أنني لم أعد «لوكيوس»، ولا يدل مظهري كلّه على شيء إلّا على جحش، مجرّد دابة من دواب الحمل، فقد احتفظتُ بقدراتي العقلية، وكان لي مع نفسي حوار حاد عنيف عمّا كان ينبغي عليّ أن أعضّ «فوتيس» وأرفسها حتى الموت أم لا، كانت ساحرة… ألم تكن كذلك؟ بل ساحرة شريرة أيضا بيد أنني قررتُ في النهاية أنّه من الخطر، بل من الغباء أن أقتل الشخص الوحيد الذي سيساعدني على استعادة شكلي الإنساني، فابتلعتُ سخطي آنذاك، وأنا أطأطئ رأسي وأهزّ أذني إذعانا، وأسلمتُ نفسي لقدري القاسي، وتعثرتُ في طريقي إلى الإسطبل حيث أجدُ على الأقل صحبة جوادي الأبيض الذي حملني حين كنتُ إنسانا.

كان حصاني في الإسطبل رفقة حمار آخر لمضيفي. وتوقعتُ في الحق أنّ حصاني سوف يعرفني، إن كان للحيوانات العجماء شعور طبيعي بالولاء، ويشفق عليّ من جرّاء مصيبتي، وأن يحتفي بي في الإسطبل كما لو كنتُ سفير دولة أجنبية يزور بلاط روما الإمبراطوري! لكنّ حصاني… البديع قرن رأسه برأس حمار مضيفي الفظيع على الفور، يساورهما الشكّ في أنني أتآمر على طعامهما، وتحالفا ضدّي، فبمجرد أن اقتربتُ من عليقهما نصبا آذانهما إلى الوراء، ودارا دورتين وشرعا يرفساني في وجهي. جوادي أنا؟! يا له من عرفان بالجميل! هاأنذا أُبعد عن الشعير الذي اكتلته له منذ سويعات بيدي الاثنتين.

 

محمد زفزاف.. الثعلب الذي يظهر ويختفي

كتب الروائي المغربي روايته «الثعلب الذي يظهر ويختفي» عن مدينة الصويرة زمن حركة الهيبيين التي كانت مقصدهم المفضل. ومن خلال العنوان ذاته تظهر شخصية الثعلب ومقابلها النعاج، مستلهما هذه الثنائية في إبراز الطبائع البشرية وخلفياتها الاجتماعية وتناقضاتها السلوكية. هنا يحضر معنا السارد متقمصا شخصية الثعلب في ظهوره واختفائه واصفا النعاج داخل ما أسماه السيرك الكبير أو المهزلة الكبرى العظيمة:

«… ما كنتُ أتوجّس منه وقعتُ فيه. وعندما استيقظتُ لم تكن لديّ رغبة في الأكل إطلاقا. كان الوقت وقت الغروب وأنا لا أحبه. إنّه يذكرني بنهاية الكون. كل شيء يرقد لتستأنف المهزلة. المهزلة الكبرى العظيمة. السيرك الكبير حيث تجتمع الطبائع التي تكرر نفسها عبر التاريخ، الحب، الحقد، العدل الظلم، النفاق، السرقة، المعاملة الحسنة المغلفة بنوايا خلفية قد تكون صادقة أولا. والآن، هو المساء مرّة أخرى. كلّ شيء حدث اليوم لكنّي كنتُ غائبا عنه. وفي الواقع، حتّى لو كنتُ مستيقظا فإنّي في أغلب الأحيان أكون غائبا. كم من الأشياء تحصل لكنها تتكرر في هذا الزمن أو ذاك. هذا هو المساء. وهذه نهاية أشياء بالنسبة لهم، وبداية أشياء بالنسبة لي. ولكن بدونهم لن تكون هذه الأشياء هي أشيائي. فهم الذين يشعرونني بأنّها لي. إنّها لعبة جميلة وقديمة. جزء من المهزلة الكبرى، جزء من المهلة، جزء من السيرك. وكان عليّ أن أتقمص دورا في هذا السيرك. أنا لا أعرف الدبّ ولا أعرف الأسد ولا أعرف النمر. أعرف جيدا الحمار والبغل. ولكن بما أنّ الناس يحتقرونهما. فإنّي فضلتُ أن أكون ثعلبا هذا المساء، خصوصا وانّ القطيع قد أُنهك طيلة اليوم كلّه. وما أكثر ما قرأتُ عن أحابيل الثعلب في الكتب المدرسية وما أكثر ما سمعتُ عنه وأنا صغير. كان القطيع يسير جماعات جماعات في الأزقة الضيقة، وبعض النعاج المصابة بجرب كانت تجرّ أقدامها وحيدة قرب الجدران، وهي تمضغ همومها اليومية، وتفكّر في همومها القادمة وكيف ستجد حلا لمشاكلها، ومن يدري فقد يداهمها الموت ليضع حدا لكلّ شيء. فهموم النعاج لا تنتهي أبدا. ما أن تنتهي واحدة حتّى تبدأ الأخرى، وحتّى لو لم تكن لك القوة القادرة العليا والخفية لها يد في خلق هذه الهموم، إنّ النعاج تخلقها لنفسها ولغيرها. ورأفة بهؤلاء النعاج، التي لم تأخذ درسا من نهاية وانقراض القطعان السابقة، عبر سنوات خلتْ، فإنّ تلك القوة القادرة العليا والخفية، خلقت شيئا اسمه الموت. إنّه الحكمة الصادقة. الدرس الأزلي، الذي لا زال يُلقّنُ لكلّ النعاج لكن دون جدوى. وها هي الآن تسير من حولي بعد أن قضمت عشب غيرها اليومي، دون أن تشعر بذرة واحدة من الندم. وتذكرتُ قول الشاعر العربي: «إنما العاجز من لا يستبد». ومع ذلك، فقد أصررتُ على أن أبقى ثعلبا هذا المساء وألا ألعب دور النعجة. لكن لا أحد منهم انتبه إلى خطمي أو إلى ذيلي، وأنني في أيّة لحظة يمكن أن أفترس واحدا منهم. لكنّهم دائما يظلون في غفلة مطأطئي الرؤوس أو رافعيها. يمشون بين الأزقة جماعات جماعات في بطء، وقليل منهم من كان يُهرْول. كانوا يتلامسون بالمناكب. وكانت أعناق بعضهم تشرئب لتلامس أعناق آخرين. إنّه المساء!».

 

سركون بولص.. حامل الفانوس في ليل الذئاب

لم يكن الشاعر العراقي سركون بولص، أحد رواد قصيدة النثر العربية ومن كبار المترجمين، صاحب كشوفات شعرية مذهلة فقط، بل اختط لنفسه معمارا شعريا تمتزج فيه الرموز والأساطير الخاصة ببلاد الرافدين، إضافة إلى عناصر تنتمي جلّها إلى سيرته الذاتية ومفاصل حياته الخاصّة التي لم تكن سوى سيرة موازية لسلفه الأسطوري جلجامش كما هو الحال في قصيدته «حامل الفانوس في ليل الذئاب». هنا يعود سركون بولص إلى ذاكرته الأولى من خلال شخصية الأب وطفولته حيث يتوازى هنا ليل الذئاب الموحش الذي يرمز إلى ماضيه المثقل بالمعاناة والخوف والذعر، والفانوس الذي يرمز إلى رحلته الشعرية نحو العالم حاملا معه قصيدته يتلوها في سفره الأسطوري، ويذكرنا بديوانه الأول «الوصول إلى مدينة أين» الذي كان بحق انطلاقته في هذه الرحلة:

 

من جاء

في الليل يستدعي أبي؟

من الطارق بقبضته على الباب قبيل الفجر

آتيا ليقلق تهويمة طائر النوم المقيّدة أرجله

بحبال ينسجها سيّد الحالمين، في تلك

الخفقة المذعورة من جناحيه

في تلك الساعة المليئة كعيني مريم بالزرقة

عندما تنام حتى الكلاب؟

 

الريح جاءت تستدعي أبي

صبيّ لاهث ركض المسافة بلا توقف جاء يستدعي أبي

عامل مهموم يطلّ بوجهه الشائك من فتحة الباب:

أحمل له الفانوس، ويسبقنا ظله المترجرج على الجدران

تحت إبطه منديله المليء بالأعشاب، مساحيق الفطر

والناردين، بصْلة خشخاش، قرنفلات يابسة

لتهوية الكوابيس، لطرد الشياطين

من شقوق الجدران الداخلية، لإرساء

مركب الصرع المتقاذف من قبل أمواج

غير مرئية، وكلّ علّة خفية أخرى

ما عدا «المكتوب على الجبين»

في جيبه علبة كبريت

ومحْبسٌ يمرّر في فتحته المنديل

لفكّ أيّة عقدة مجهولة قد تسدّ طريق المعافاة.

 

في هالة الفانوس إذا تأرجحتْ

راسمة حدوة من النور في الفضاء

وجه البومة قناعٌ طائرٌ يبرق في مرآة الظلام مرّة ويختفي

كورسٌ من الجنادب يزرد النجوم كالخرز

في حلقة من الصليل الحادّ

آخر ذئب يطلق عواءه الختامي من جهة المقابر

وشرائح الصقيع في الغدران المتجمدة كالمرايا

زجاج مشجّرٌ، أرقُّ من خبز الرقيق

يمكن كسره بدعسة خفيفة من كعب الحذاء.

 

الطفل الصارخ في الليل خوفا

من زيارة الجنية، الأبله الذي تزبد شفتاه

كلّما اكتمل البدر، الصفعة التي كالها للشاب

المصاب بصفراء اليرقان، تلك التي جعلته

يدوّم كالخدروف

أمام أهله الذين هبّوا واجمين…

ثم عادوا ثانية إلى الجلوس.

 

زوجة الشمّاس التي تسير في نومها

لتزور زوجها النائم خلف سور المقبرة.

يدفع رأس الليل بيديه

في رحم الظلام ليمنعه من الولادة

يأمر الموت بالرجوع صارخا: «شمّت بابا برونا روخت قجه»

شاهرا قبضته وفيها الصليب ومسبحة الصلاة.

امرأة العامل استفاقت ذات صباح

دون كوابيس مظلمة تطاردها حتّى في رابعة النهار.

الشاب الذي استعاد لونه جاء إلى بيتنا في صبيحة العيد

وبين ذراعيه حمل صغير، كغريق عائد إلى البشرية

من عالم البحر.

 

شوهدت أرملة الشمّاس تغتاب

زوجة الكاهن في باب الكنيسة من جديد

واستُدْرج القمر الهائج من سمائه

إلى فخّه الآمن في كنف عباءة سوداء

غطّى بها أبي

رأس الأبله الذي كفّ عن الارتجاف

الطفل في مهده الهادئ، نام.

وكنتُ أحمل الفانوس…

 

محمد المخزنجي.. حيوانات أيامنا

تفرّد محمد المخزنجي، أحد أبرز كتاب القصة في مصر والعالم العربي، بمجموعته القصصية «حيوانات أيامنا» التي وظّف فيها شخصيات من عالم الحيوان للتطرق إلى موضوعات راهنة، مثل قصته التالية «جراء» التي تصوّر سقوط بغداد ومآل هذا الحدث الخطير على المنطقة والشرق الأوسط بأكمله:

«توقف القصف منذ الأمس، وخرج الناس إلى الشوارع مع ضوء النهار. كانت بقايا الحرائق لا تزال تدخن، حطام الأبنية المنهارة ينتشر في كلّ الأماكن، وأرتال الدبابات والعربات المصفحة توغل في الشوارع وتنتشر في الميادين. أكمل الغزاة احتلال المدينة، وفي الوقت ذاته أسقط هؤلاء الغزاة نظام الحكم الذي استمرّ جاثما على الصدور خمسة وثلاثين عاما. لم يستقبل الناس الغزاة بالورود في المدينة المحترقة، لكنهم كانوا ينطلقون وسط الخرائب بخفّة المفلتين من رقابة مزمنة، كانوا منعتقين ومتوجسين، وكانت هناك حالة انفلات وإنهاك تسود كلّ شيء، حتى الحيوانات السائبة التي كانت مبعثرة في كل الأماكن، أغلبها كلاب ضالة، وجراء صغيرة تتبعها، كثرت بشكل خاص، غامض، في الحديقة الكبيرة على شاطئ النهر، حيث تجمّع عشرات من البشر يقرفصون ويميلون وينبطحون، ملصقين آذانهم بالعشب وبالتراب، لعلهم يلتقطون أصوات الغائبين التي شاع أنّها تتسرب من سجون خفية تحت الأرض… عشرات، مئات، بل آلاف اختفوا، منذ سنين في غياهب النظام الذي تلاشى منذ أمس… ثمة من أقسموا أنهم سمعوا صرخاتهم، وثمة من كانوا يحاولون التقاط هذه الأصوات، يلصقون آذانهم بالأرض ولا يتحدثون إلّا همسا أو بالإشارات. صمت غريب ساد جنبات الحديقة واستجابت له الكلاب الكثيرة التي كانت تتوقف مصيخة أسماعها التي تلتقط ما لا تستطيع آذان البشر التقاطه، تنتصب آذانها وتنسدل، وتلوي رؤوسها لترهف زوايا الالتقاط، تبدو متحيرة وهي لا تستطيع أن تميّز إن كانت هذه الدمدمة الصادرة من جوف الأرض هي أصوات مصفدين في سجون مدفونة في الأعماق، أم ترجيع مكتوم لصوت جنازير المدرعات الغازية، التي راحت تهرس الإسفلت، وبقايا النخيل المقصوف المحترق، وعظام القتلى والجرحى المبعثرين في الشوارع. أمّا الجراء التي كانت أسماعها البكر شديدة الرهافة، وتلتقط ما لا يلتقطه سمع الكلاب الكبيرة، ولا البشر، فإنّها كانت ترتجف ارتجافا شديدا غريبا، وتصدر أصواتا مؤلمة كالعويل».

ميخائيل بولغاكوف.. قلب كلب

كتب الروائي والمسرحي الروسي ميخائيل بولغاكوف روايته «قلب كلب» سنة 1925 وظلت ممنوعة حتى سنة 1987. كانت تحمل نقدا لاذعا للمشروع السوفياتي في بناء مجتمع جديد وتحويل طبقة اجتماعية قائدة لهذا المجتمع من خلال شخصية الكلب الشريد التي تحمل بعدا رمزيا كبيرا، حيث سعى الأطباء إلى تحويله إلى إنسان بعد أن زرعوا فيه غدة نخامية بشرية فتحوّل إلى إنسان بقلب كلب. نصادف هنا الكلب وهو يصف تشرده قبل وقوعه بين يدي الأطباء وسعيهم لتحويله إلى كائن بشري:

«… في خاصرتي ألمٌ لا يطاق، وحدود مستقبلي واضحة لي تماما. إذ غدا ستبدأ القروح بالظهور، وإنّي لأتساءل: بماذا سأداويها؟ في الصيف أستطيع الذهاب إلى حيّ «صكولنكي»، فهناك يوجد نبات ممتاز أخضر ومن نوع خاص، كما أنّك ستُتخم مجانا مما يرميه المواطنون من بقايا السجق، وتشبع من لحس الأوراق الملوثة بالدهن. ولولا هذه الشريرة التي تغنّي «عايدة الغالية» من فوق دائرة في ضوء القمر بصوت تتقطع له نياط القلب، لكان الأمر ممتازا. أمّا الآن فإلى أين تذهب؟ أما ركلوك على مؤخرتك بالحذاء؟ ركلوك. أما كانت أحجار القرميد تصيب أضلاعك؟ بلى، لقد نلت ما فيه الكفاية. لقد عانيتُ كلّ شيء. وإنني قانع بمصيري، ولئن كنتُ أبكي الآن فإنّما بسبب الألم والبرد، لأنّ روحي لم تهمد بعد… روح الكلاب صبورة.

أمّا جسمي فإنّه مُحطّم، مكسّر، فلشدّ ما تمتع الناس بتعذيبي، والشيء الأهم هو كيف قذفني بالماء الغالي فاخترق جلدي. ويبدو أنّه لم يعد ثمة ما أحمي به جنبي الأيسر إطلاقا. فأنا معرّض الآن وبكلّ بساطة للإصابة بالتهاب الرئتين، وإذا أُصبتُ به فإنني، أيّها المواطنون، سأفطس من الجوع. إنّ الإصابة بالتهاب الرئتين تتطلب استلقاء في الممر الرئيسي تحت الدرج. ولكن من سيركض عندئذ عوضا عنّي، أنا الكلب العازب الطريح، فيجري بين صناديق القمامة بحثا عن الطعام؟ وإذا ما أُصيبت رئتي سأزحف على بطني حتّى يبلغ الضعف حدّا يسمح لأيّ مختص أن يوجه لي ضربة بعصاه تودي بي إلى الموت. ثم يجرّني الكناسون من رجليّ بخطافين ويلقون بي في العربة…

إنّ الكناسين هم أحطّ وأنذل أنواع البروليتاريين جميعا. إنّهم النفايات البشرية وأسفل الدرجات، والطباخون أنواع. هناك، مثلا المرحوم «فلاص» من شارع بريتيشيستنسكيا. ما أكثر الذين أنقذ حياتهم، ذلك أن الشيء الأهم وقت المرض هو الحصول على لقمة. وهكذا كان يحدث، كما تذكر الكلاب المُسنة، أن يرمي «فلاص» عظما يكون عليه نصف أوقية من اللحم. أسكنه الله فسيح جنانه، فقد كان شخصية أصيلة، وطباخا راقيا عند عائلة «تلصتوي»، وليس واحدا من مجلس التغذية العادية. إنّ ما يقومون به من أعمال هناك، في التغذية العادية، أمر لا يدركه عقل كلب! فهم أنفسهم، السفلة، يطبخون حساء الحُمّيض من لحم مملّح نتن، بينما لا يعرف أولئك المساكين شيئا عن ذلك. إنّهم يركضون، يحشون بطونهم، يلعقون.

هناك عاملة على الآلة الكاتبة مرتبُها من الدرجة التاسعة خمسة وأربعون روبلا، إلّا أنّ عشيقها في الحقيقة سوف يهديها جوارب… ولكن كم عليها أن تتحمل من إهانات في سبيل ذلك… فهو لا يأخذها بإحدى الطرق العادية، بل بطريقة الحب الفرنسي. الحكي بيننا، يا لهؤلاء الفرنسيين من أوغاد! رغم أنّهم يأكلون طعاما فاخرا ويتناولون النبيذ الأحمر دائما. نعم… تأتي هذه العاملة المسكينة راكضة، إذ إنّك لا تستطيع الذهاب إلى «بار» ومرتبك خمسة وأربعون روبلا. إنّها لا تستطيع الذهاب إلى السينما أيضا، مع أنّ السينما هي العزاء الوحيد للنساء في الحياة».

 

 

جورج أورويل.. مزرعة الحيوان

«مزرعة الحيوان» رواية خيالية للكاتب الإنجليزي جورج أورويل (1903-1950) يحكي فيها عن ثورة تقوم بها مجموعة من الحيوانات في مزرعة إنجليزية. الروح الفكهة التي تغمر أجواء الرواية لا تخفي كونها مجازا رمزيا يحمل الكثير من الانتقاد للأنظمة الشمولية بخلفياتها المتعددة فاشية أو اشتراكية. فكثيرا ما نبّه جورج أورويل جمهور قرائه بقوله: «كلّ سطر من سطور أعمالي الجادة التي كتبتُ منذ العام 1936 قد كُتبت، مباشرة أو بشكل غير مباشر، ضدّ النزعة الاستبدادية، ومن أجل الاشتراكية الديموقراطية كما أفهمها». تجتمع الحيوانات في المزرعة للاستماع إلى حكيمهم بصدد القيام بثورتهم على الإنسان:

«… الآن أيّها الرفاق، ما طبيعة الحياة التي نعيشها معشر الحيوانات؟ دعونا نواجه أمورنا بصراحة: حياتنا جدّ قصيرة، نقضيها في كدّ وعناء! نحن نولد فلا يسمح لنا إلّا بالكفاف الذي يكاد لا يمسك علينا رمقنا، والحيوانات يستغلها الآدميون في أعمالهم فتشقى بها حتّى أنفاسها الأخيرة! فإذا انتهت الحاجة إليها قادوها للذبح بقسوة بالغة! وقد وئدت الحرية بإنجلترا حتّى أصبحت الحيوانات لا تعرف معنى السعادة أو الراحة منذ بداية حياتها إلى نهايتها! إنّ حياتنا في حقيقتها هي الشقاء مجسّدا والعبودية في أبشع صورها!

أمّا من جانبنا معشر الحيوانات فهل كتب علينا الاستسلام لهذه الأوضاع على أنّها من طبائع الأشياء؟ وهل الأرض التي نعيش عليها من الشح والقحط بحيث لا يمكنها أن تجود علينا بعيش كريم؟… فعلام إذن نواصل تلك الحياة التعسة؟ ما من سبب يدعو لذلك إلّا جشع الإنسان الذي يستحوذ على فائض الإنتاج، وهي الحقيقة المرّة التي تفسر لنا أسباب تعسنا وإن دارت كلّها حول محور واحد هو الإنسان! إنّ الإنسان هو عدونا الأوحد والأزلي، فإذا استبعدناه من طريقنا فإننا نكون بذلك قد محونا جذور الجوع والعبودية إلى الأبد!

فالإنسان –أيّها الرفاق- هو المخلوق الوحيد الذي يستهلك ولا ينتج. فهو لا يدر اللبن ولا يبيض، وهو أوهى من أن يحرث الأرض بنفسه، وهو أبطأ من أن يلحق بالأرانب ليصيدها بيده، ومع ذلك فإنّه السيد على جميع الحيوانات، يسخرها في العمل ولا يجود عليها إلّا بالكفاف مستأثرا لنفسه بكلّ الطيبات! أمّا نحن الذين نحرث الأرض ونسمدها فليس لدينا ما نمتلكه حتى جلودنا!»… ويواصل خطبته قائلا: «تذكروا أيّها الرفاق: لا ينبغي أن يفتر عزمكم، إنّ أخطاءكم الجسيمة غير مبررة. لا تنصتوا لمن يقول لكم إنّ هناك مصالح مشتركة تجمع الإنسان والحيوان، هل تصدّقون فعلا أنّ نجاح أحدهما مرهون بنجاح الآخر؟ هذه مجرّد أكاذيب. الإنسان لا يعرف مصالح أخرى غير مصالحه. إذا، فلتسد بين الحيوانات، طيلة فترة المقاومة، الوحدة المطلقة والتضامن الذي لا يشوبه أيّ تصدع. الإنسان هو العدو. والحيوانات كلّهم رفاق».

 

 

رفّ الكتب

 

غي ديبور.. مجتمع الاستعراض

 

 

في مؤلفه «مجتمع الاستعراض»، يحلل الكاتب والمفكر الفرنسي، غي ديبور Guy Debord، عن طريق شذرات مرقمة، آليات اشتغال المجتمع الصناعي الذي يحيل الأفراد إلى شبكات إنتاجية واستهلاكية يتحولون فيها إلى صور استعراضية زائفة ومنفصلة عن الواقع فيذوبون فيها. فالمجتمع الصناعي، بحسبه، يشتغل بالأساس على الصور والتكرار الممل لها فيبنى متخيلا وأحلاما للناس بعيدا عن أحلامهم ومتخيّلهم الخاص ويشرعون من تلقاء أنفسهم في إعادة إنتاجه وتدويره دون أن يقترح عليهم أحد ذلك، وتنغلق الدائرة فيصبح كل شيء، من فن وثقافة وتفكير، سلعا للتداول في مجتمع الاستعراض. فيعرف لنا، على سبيل المثال، مفهوم الاستعراض بقوله: «الاستعراض، مفهوما في كلّيته، هو في آن واحد نتيجة ومشروع نمط الإنتاج الراهن. ليس ملحقا للعالم الواقعي، وليس ديكورا إضافيا له. إنّه لبّ لا واقعية المجتمع الواقعي. في كلّ أشكاله النوعية، سواء كانت المعلومات أو الدعاية، الإعلان أو الاستهلاك المباشر للتسلية. يشكّل الاستعراض النموذج الراهن للحياة السائدة اجتماعيا. إنّه التأكيد الكلّي الحضور للاختيار الذي تمّ اتّخاذه فعلا في الإنتاج والاستهلاك المنبثق عنه. وشكل ومضمون الاستعراض هما، على نحو متطابق، التبرير الكلّي لشروط وغايات النظام القائم. والاستعراض هو، أيضا، الحضور الدائم لهذا التبرير، حيث يحتلّ الجزء الأكبر من الوقت المعيش خارج الإنتاج الحديث». وكيف احتلت الصورة موقعها في مجتمع الاستعراض يفسره كالتالي: «حيث يتحوّل العالم الواقعي إلى صور بسيطة، تصبح الصور البسيطة كائنات واقعية، وحوافز فعّالة لسلوك في حالة تنويم. والاستعراض، بوصفه ميلا بوسائط متخصصة مختلفة، لأن يجعل مرئيا ذلك العالم الذي لم يعد يمكن الإمساك به مباشرة، هذا الاستعراض من الطبيعي أن يعتبر النظر الحاسة الإنسانية الممتازة التي كأنّها اللمس في حقب سالفة. فهذه الحاسة الأكثر تجريدا، والأكثر قابلية لإضفاء الغموض عليها تناظر التجريد المعمّم للمجتمع الراهن. لكن الاستعراض لا يمكن التعرّف عليه بمجرد النظر، حتى لو ارتبط بالسمع. إنّه ذلك الذي يفلت من نشاط البشر، يفلت من أن يعيد عملهم النظر فيه أو يصححه، إنّه نقيض الحوار. وحيثما وجد تمثيل مستقل، يعيد الاستعراض تأسيس نفسه».

 

 

متوجون

 

مغاربة جائزة كتارا 2024

تمّ الإعلان، أخيرا، عن القائمة القصيرة لفئة الروايات المنشورة في جائزة كتارا للرواية العربية في دورتها العاشرة، التي عرفت حضورا قويا لمصر من خلال رواية «نجع المحاريق» لأنهار عطية، و«حكاية السبحة التي سقطت في الحفرة» لإيناس حليم و«الشماشرجي» لمحمود جمال و«بنادق ونيشان» ليوسف حسين. ومن سلطنة عُمان محمود الرحبي بروايته «طبول الوادي» وعلاء حليحل من فلسطين «سبع رسائل إلى أم كلثوم»، ومحمد طرزي من لبنان «ميكرفون كاتم صوت» ونزار أغري من سوريا «جسر النحاس» ومن السعودية يوسف المحيميد «رجل تتعقبه الغربان». أما على المستوى المغربي، خاصة في فئة الروايات غير المنشورة: شيماء الروام «على مر الجراح» وعبد الغني حدادي «ثمة مرآة لا تعكس ظلها» وياسين كني «ع ب ث». وفي فئة الدراسات النقدية: بوشعيب الساوري «تخييل الهوية في الرواية العربية» حسن الطويل «التأويل البلاغي للرواية، إشكالات وتطبيقات» وزهير سوكاح «الرواية العربية والذاكرة الجمعية». وفي فئة الروايات التاريخية: صلاح الدين أقرقر «حاجب السلطان» ومحمد مباركي «الاستبقاء في ضيافة الأشقّاء». وفي رواية الفتيان: حورية الظل «اللجوء إلى الكوكب الرمادي».

 

 

مقتطفات

 

فرانز فانون.. معذبو الأرض

الطبيب النفسي من المارتنيك فرانز فانون (1925-1961) Fanon Franz، الذي عمل طبيبا بأحد المستشفيات في الجزائر إبّان الاحتلال الفرنسي، كان من أشدّ المعارضين للاستعمار وخاصة الفرنسي. لم يكتب فرانز فانون سوى كتابين «بشرة سوداء وأقنعة بيضاء» و«معذبو الأرض»، الذي صار أكبر ملهم لحركات التحرر الوطنية في العالم وفي إفريقيا خاصة. في كتابه يقوم فرانز فانون بتشريح للأنظمة الاستعمارية الذي يضمر بداخله أسوأ أنواع العبودية ليس في إفريقيا وحدها، وإن كان في الأصل المنطلق الأساسي في ما ستشهده أمريكا الشمالية والجنوبية من عملية اتجار مقيت بالبشر في أسواق النخاسة ومزارع المستوطنين البيض. يكشف بدم بارد كيف أنّه نظام مبني أساسا على العنف وكما يقول ليس في الاستعمار سوى الدركي والجندي وليس هناك لا رجل دين أو سياسي، وبمقتضى ذلك لا تمكن مواجهته إلّا بالقوة. إن عملية نقد الاستعمار وإبراز وجهه البشع وغير الإنساني لم تمنع فرانز فانون من نقد المُسْتَعمرين وفضح قادتهم وزعمائهم وبنية التخلف في التفكير والممارسة السياسية تجعلهم ضحايا الاستعمار قبل الاستقلال وبعده. وليصور لنا العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر يقول: «إنّ العلاقة بين المستعمِر والمستعمَر هي علاقات جماعة بجماعة. والمستعمِر يقاوم كثرة العدد بكثرة القوة. إنّ المستعمِر إنسان مصاب بداء الميل إلى العرض. واهتمامه بسلامته يحمله على أن يذكّر المستعمَر جهارا بأنّه هو السيّد. (أنا هنا السيّد). فيثير في المستعمَر غضبا يكبحه بهذا حين يهمّ أن يخرج، إنّ المستعمَر موثق بالأغلال القوية التي أحكم الاستعمار إطباق حلقاتها عليه. ولكننا رأينا المستعمِر لا يحصل إلّا على تجميد ظاهري، أمّا في الداخل فيظلّ الرجل في حالة غليان. وهذا التوتر العضلي ينطلق من حين إلى حين انفجارات دامية: معارك قبلية ونزاعات بين أفراد. فعلى مستوى الأفراد نشهد أمورا تخالف المنطق حقا. فبينما نرى المستعمِر أو الشرطي يستطيعان من أوّل النهار إلى آخره أن يضربا المستعمَر وأن يهيناه وأن يركعاه، نجد المستعمَر يشهر سكينه عند أيسر نظرة عدائية أو هجومية يلقيها عليه مستعمَر آخر، لأنّ آخر ما بقي للمستعمَر هو أن يدافع عن شخصيته تجاه مواطنه. ولمّا كانت الصراعات القبلية استمرارا لأحقاد قديمة مغروسة في الذاكرة، فإنّ المستعمَر حين يخوض معارك الثأر بكلّ ما أوتي من قوة، إنّما يحاول أن يقنع نفسه بأنّ الاستعمار لا وجود له، وأنّ جميع الأمور تجري كما كانت تجري في الماضي، وأنّ التاريخ يستمر… ومن الواضح كلّ الوضوح أنّ هذا السلوك هو، على مستوى الجماعات، نوع من ذلك (السلوك الهروبي) المعروف، كان هذا الانغماس في دم الأخوة يمكن أن يكون يعمي عن رؤية العدو الحقيقي، وأن يؤجّل خوض المعركة التي لابدّ من خوضها، ألا وهي المعركة المسلحة مع الاستعمار». في المقابل يقدم لنا فرانز فانون نظرة المستعمِر للمستعمَر بوصف المستعمِر لضحاياه على الشكل التالي: «أنّ هؤلاء الناس ليسوا عقلاء» أو يوظف الدين: «فبواسطة الإيمان بالقدر يجرّد المضطهِد من المسؤولية، باعتبار أنّ الله علّة كلّ شيء، فهو الذي أراد هذه الآلام وهذا البؤس، وهو الذي رسم هذا المصير، فعلى الفرد أن يقبل هذا الفناء الذي أراده الله. وهكذا يخضع للمستعمِر مذعنا للقضاء والقدر، ويصل من ذلك بنوع من تحقيق التوازن الداخلي، إلى هدوء كهدوء الصخر. وتجري الحياة في أثناء ذلك».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى