الجابري: «اليوسي وزير الداخلية كان يقول إنه صاحب الحركة الشعبية وإن أحرضان استولى عليها»
انعقد المجلس الوطني للمقاومة وجيش التحرير يوم 16 غشت 1956 والمجلس الوطني للاتحاد المغربي للشغل يومي 17 ـ 18 من الشهر نفسه. أما المجلس الوطني لحزب الاستقلال فقد اجتمع يومي 19 ـ 20 من الشهر ذاته.
بدأ المجلس الوطني لحزب الاستقلال أشغاله يوم 19 غشت 1956 بخطاب للزعيم علال حول الوضعية يومئذ وانتهى بتأكيد الثقة في اللجنة التنفيذية ومطالبتها بالعمل على خروج الوزراء الاستقلاليين من الحكومة الائتلافية والسعي لدى جلالة الملك لتكوين حكومة منسجمة قادرة على تنفيذ البرنامج المستعجل لحزب الاستقلال. كما طالب المجلس الوطني اللجنة التنفيذية بأن لا تسمح لأي عضو من أعضاء حزب الاستقلال بالمشاركة في أية حكومة لا تستطيع تنفيذ برنامج الحزب كما صادق عليه المجلس الوطني الذي دعا إلى تشكيل حكومة منسجمة وإجراء انتخابات محلية وجهوية على طريق انتخاب مجلس وطني تأسيسي لوضع الدستور لنظام ملكية دستورية.
أما المجلس الوطني للمقاومة وجيش التحرير المنعقد يوم 16 غشت 1956 فقد أصدر بيانا ختاميا طالب فيه بنظام ملكي دستوري يتلاءم مع مبادئ الإسلام الصحيح، وباحترام حقوق الإنسان كما حددها الميثاق الدولي الخاص بها، وبتطهير الإدارة من الإقطاعيين والخونة»، وبمغربة الإدارة وتعريبها، و«تحويل الجهاز الإداري الحالي ـ لما يتصف به من جمود وعرقلة ولما يكلف ميزانية الدولة من مصاريف باهظة ـ إلى إدارة مرنة ناجعة قادرة على أن تنفذ بإخلاص وحماس سياسة نهوض اقتصادي وتقدم اجتماعي».
كما طالب بـ«تحديد سياسة للدولة في ما يتعلق بالجيش الوطني بحيث يصبح هذا الجيش أداة ناجعة للدفاع عن البلاد ومستودعا أمينا للروح الوطنية ومدرسة للتهذيب والتربية الصالحة في الأمة وذلك تحت قيادة ضباط مخلصين ومقتدرين». وطالب أيضا بـ«وضع حد لتآمرعناصر الشر التي ألحقت ضررا بالأمة والتي لا يزال وضعها السياسي والاجتماعي في عهد الاستقلال يجعلها مصدر خطر على مصلحة الوطن العليا وعرقلة في سبيل تحرير الشعب» (…). ويضيف بيان المجلس الوطني للمقاومة وجيش التحرير: «ومن أجل تحقيق هذه الأهداف يرى المجلس الوطني من الواجب تأسيس حكومة وطنية قادرة على تنفيذها، ويشترط أن تكون منسجمة ومتضامنة ومسؤولة عن أعمالها، وأن يكون لها برنامج محكم معروف يتخذ صورة تصميم إلى أجل، يستطيع أن يعبئ الحماس الشعبي ويستعمل جميع القوات الحية في البلاد للنهوض بها إلى مصاف الأمم الراقية».
خرج الوزراء الاستقلاليون من الحكومة تنفيذا لقرار المجلس الوطني للحزب ودخل المغرب في أزمة حكومية في جو اتسم بتحركات القوة الثالثة بزعامة الحسن اليوسي كما ذكرنا. وكرد فعل ضد نشاط اليوسي في الأطلس، الذي اتسم بالصبغة القبلية، قام علال الفاسي بتنقلات زار خلالها نفس المراكز التي زارها اليوسي في الأطلس مركزا في خطبه على التحليل التاريخي للأصول المشتركة بين العرب والأمازيغ في المغرب. وقد جرت محاولة اغتياله عندما كان في طريقه إلى بولمان (قالت العلم يوم 25 سبتمبر 1956: «إن 34 طلقة قد اخترقت سيارته دون أن تصيبه وإنه واصل طريقه إلى بولمان حيث ألقى خطابا». وكان من الطبيعي أن تستعصي الأزمة الحكومية التي وضعت الملك محمد الخامس أمام اختيار صعب: إما حزب الاستقلال وإما الآخرون. وتشاء الأقدار أن تأتي بحدث خطير جعل الالتفاف حول محمد الخامس ضرورة ظرفية. وهكذا تشكلت حكومة البكاي الثانية. والقصة كما يلي:
تاسعا: حكومة ثانية «غير منسجمة»
كانت فصائل الثورة في الجزائر قد عقدت اجتماعا لها بالقاهرة في أكتوبر 1956 للإعلان عن تأسيس «جبهة التحرير الوطني الجزائري». ومن أجل إطلاع المسؤولين المغاربة على مقررات مؤتمر القاهرة قدم إلى المغرب أربعة من زعماء جبهة التحرير هم أحمد بن بلة ومحمد خيضر ومحمد بوضياف والحسين آيت احمد (ومعهم الأستاذ مصطفى الأشرف كاتب وأديب جزائري)، ثم توجهوا إلى تونس.
وعندما كانت الطائرة المغربية التي تقلهم في طريقها إلى تونس أجبرتها طائرات عسكرية فرنسية على الهبوط في مطار الجزائر العاصمة (يوم 22 أكتوبر 1956)، فقامت في المغرب مظاهرات صاخبة كان أعنفها مظاهرة مكناس التي شهدت أحداثا دموية. واحتجاجا على هذه القرصنة الجوية التي تشكل اعتداء على السيادة المغربية استدعي سفير المغرب في باريس عبد الرحيم بوعبيد للالتحاق بالرباط، وتقرر تشكيل حكومة جديدة بصفة مستعجلة (أكتوبر 1956) أسندت رئاستها إلى البكاي مرة أخرى.
لم تكن حكومة منسجمة من النوع الذي طالب به المجلس الوطني لحزب الاستقلال، بل كانت نسخة طبق الأصل من الحكومة الأولى مع ترضية لحزب الاستقلال في صورة «مكاسب إضافية». لقد احتفظ فيها حزب الاستقلال على نفس العدد من الكراسي ولكن بشخصيات أكثر وزنا: بلافريج في الخارجية، بوعبيد في الاقتصاد الوطني، عبد الكريم بنجلون في العدل، إدريس المحمدي في الداخلية، عمر بن عبد الجليل في الفلاحة، محمد الدويري في الأشغال العمومية، عبد الله إبراهيم في الشغل والشؤون الاجتماعية، محمد الفاسي في التعليم، المختار السوسي كوزير في هيأة سميت بـ«مجلس التاج» (مع عضوية محمد بلعربي العلوي، والحسن اليوسي)، وعلى العموم لم تعرف الحكومة الثانية أي جديد بالمقارنة مع الهيكل العام للأولى، وإن كان نصيب حزب الاستقلال قد ارتفع عن طريق ضم بعض الحقائب إلى الوزارات التي يتولاها، وهكذا ضمت المالية والتجارة والصناعة والملاحة والمعادن إلى وزارة الشبيبة والرياضة لوزارة التعليم التي كان على رأسها محمد الفاسي، وضمت وزارة التعمير والسكنى إلى وزارة الأشغال العمومية (الدويري)، كما أضيف إلى «المستقلين» منصبان وزاريان جديدان. وقد جاءت هذه المكاسب الإضافية لكل من حزب الاستقلال و«المستقلين» نتيجة رفض حزب الشورى والاستقلال، المشاركة في الحكومة لكون المناصب التي اقترحت عليه لم تكن تتناسب في نظره مع قوته التمثيلية، فوزعت هذه المناصب على الطرفين الآخرين.
وإضافة إلى هذه المكاسب الجزئية على صعيد الحكومة حصل الحزب على مكاسب جزئية أيضا على صعيد المجلس الوطني الاستشاري الذي أسندت رئاسته للشهيد المهدي. فقد أعلن جلالة الملك محمد الخامس عن تأسيس مجلس استشاري (نوفمبر 1956)، وهو المجلس الذي أعلن عنه في المؤتمر الاستثنائي لحزب الاستقلال (ديسمبر 1955) حين قدم كأحد «المكاسب» التي قدمت لهذا المؤتمر كمبرر لقبول الحزب الدخول في حكومة لا يرأسها أحد قادته. لقد كان من المفروض أن يتأسس هذا المجلس في المرحلة الانتقالية على عهد الحكومة الأولى (أي قبل 2 مارس 1956). ولكنه تأخر ليكون نوعا من المقابل للاستمرار في نفس الحكومة ـ تقريبا. ويتمثل هذا المقابل في حصول حزب الاستقلال (بمختلف أجنحته) على أغلبية مقاعد هذا المجلس التي كان توزيعها كما يلي: حزب الاستقلال (كحزب): 10. حزب الشورى 6. المستقلون 6. الاتحاد المغربي للشغل 10. التجار والصناع 9. الفلاحون 18. العلماء والأطباء والشباب والمهندسون إلخ 17. اليهود 4. وقد انتخب الشهيد المهدي رئيسا له.
عاشرا: تمرد عدي أوبيهي
غير أنه لم تمر سوى بضعة شهور على تأسيس الحكومة الثانية حتى أعلن يوم 18 يناير 1957 عن قيام عدي أوبيهي عامل إقليم تافيلالت بتمرد مسلح، بدعوى رفض ديكتاتورية حزب الاستقلال. كان عدي أوبيهي ممن وقفوا موقفا وطنيا ضد إبعاد محمد الخامس سنة 1953 إذ قدم استقالته من القيادة، ففرض عليه الفرنسيون الإقامة الإجبارية حتى تحقق الاستقلال فعين عاملا بتافيلالت، فكان من عناصر «القوة الثالثة» التي برزت مع مفاوضات إيكس ليبان في إطار «الوطنيين المعتدلين». لم يطل تمرده طويلا فقد طوقت حركته شعبيا وعسكريا وقدم للتحقيق في نهاية يناير من نفس السنة. وخلال التحقيق ثبتت مسؤولية وزير الداخلية السابق الحسن اليوسي وتورطه في القضية، فقد قام الدليل على أنه كان مشتركا في مؤامرة عدي أوبيهي وأنه تآمر مع الفرنسيين للحصول على السلاح، فأعفي من منصبه كعضو في مجلس التاج، ففر إلى جبال الأطلس ثم التجأ إلى إسبانيا عبر مليلية. وكان قد ثبت أثناء المحاكمة على أن إسبانيا قد تآمرت هي الأخرى مع زعماء التمرد وأنها أمدتهم بالسلاح. وقد علق المرحوم عبد الرحيم بوعبيد آنذاك على تمرد عدي أوبيهي وتآمر الفرنسيين والإسبان، فقال إن هذه القضية تبين جيدا أن اليد الأجنبية لم تترك المغرب وشأنه، وإن ما حدث هو من صنف المؤامرات التي مكنت للنفوذ الأجنبي من أن يتمكن في البلاد منذ 1905.
وفي يناير 1959 صدر حكم بالإعدام في حق عدي أوبيهي وجماعة من أصحابه، وبقي عدي أوبيهي في مستشفى ابن سينا إلى أن مات. أما الحسن اليوسي فقد عاد إلى المغرب في صيف 1962، وكان يقول: «إنه صاحب الحركة الشعبية وأن أحرضان استولى عليها».