شوف تشوف

الرأي

التعريف بجودت سعيد ومدرسة اللاعنف (3- 12)

بقلم: خالص جلبي

ثم تابع المسلسل قصته لفترة 39 يوما بالنسبة إلي، حتى أفرج عني من سجن المزة الرهيب بأسواره العالية وجدرانه الكئيبة. وما زلت أذكر ليلة الدخول الأولى إلى سجن المزة العسكري وأنا محبط، لأنني أدخل السجن لأمر تورطت فيه، وفي تلك الليلة جاءنا أبو عبدو أي (أمين الحافظ الملقب بـ«الجحش») الذي فتك به الرفاق فهرب من الأسد الذي حكمه بالإعدام إلى المجرم صدام، حتى كانت كارثة العراق في ربيع 2003م، وكلها نتائج طبيعية لنبتة البعث الخبيثة. نظر أبو عبدو واشتهر يومها بلفظ أبو عبدو الجحش في الزاوية وكنا قريبا من ثمانين شخصا، قال: من هؤلاء؟ قالوا له: طلاب جامعة، قال: إنهم يتحملوا العذاب اضربوهم جيدا. ولم يقصر الشباب فينا، فتقدم الجلاد الدرزي العملاق، فبدأ في نتف لحية طالب شريعة فلسطيني، وكان هو الذي يستقبل أفواج القادمين ويضربهم ضربا مبرحا. والجلادون لا دين لهم، فقد جلدنا الدرزي والعلوي والسني، والكل في الجريمة سواء.
أثناء هذا تعرض جودت لأكثر من اعتقال في فترة البعث الظلامية، ولكن ما أذكره أنني أتيته يوما بعد الظهر وكان يتحدث مع الشباب عن شعر محمد إقبال، بجامع المرابط، وكان الشباب مسحورين به. ومن جملة قصص السحر ما حدث، حينما دعانا لرفقته إلى دوما، وهي ضاحية قريبة من دمشق، فجلسنا في المسجد بعد صلاة العصر، وكان من دعانا رجل من بيت الطنطاوي، ثم طلب منا الحديث، فتحدثت أنا من مواعظ المتصوفة عن اليوم الآخر، وكنت متأثرا يومها بشعر ومواعظ الصالحين من المتصوفة. ثم تحدث شاب جامعي كان يدرس الجيولوجيا في ما أذكر هو معاوية برزنجي، وأظنه أصبح في أمريكا الآن، فتحدث عن بعض أفكار مالك بن نبي، فجاءت الشيخ جودت حالة من النشوة بدأ يتمايل منها ويقول: “الله .. الله”، وأنا نظرت في ما حولي مثل الخجول من بضاعتي المزجاة، وقلت في نفسي: لا شك أن معاوية برزنجي هذا بحر من العلم لا قرار له.
وفي يوم استمعنا إليه في الجامع الأموي، ويبدو أن أحد عناصر المخابرات كان من الحضور، وكان جودت يشرح له كما كان يشرح للجمهور. وجودت يعتبر أن السرية خرافة، لذا فهو يعبر عن أفكاره على طريقة المسيح ما أقوله لكم في الآذان نادوا به من على السطوح، وما أقوله لكم في السر قولوه في العلن. وهل يوقد المصباح ويوضع تحت الطاولة، أم يوضع في المرتفع ليستنير به الناس؟
ومن يحدث جودت على أساس أنها أخبار من الأسرار يقول له جودت بشكل صادم: لا تحدثني عن شيء من الأسرار، وإن سئلت عنه سوف أقوله فلن أخفي شيئا لو سألتني المخابرات عنه، فليس عندي أسرار، فكانوا يتعجبون منه.
وفي يوم بعد حديث الجمعة في الأموي ذهبنا معه في مجموعة إلى منزله، فالتفت إلينا وقال: لا شك أنكم جياع وليس عندي الشيء الكثير لكم، ثم قدم لنا خبزا وطماطم (مطيشة)، فكانت أشهى من الكباب الحلبي. والكباب الحلبي يعتبر من أطيب أطعمة السوريين.
وفي يوم قلت له بعد درس المرابط، وكان يعطي درسه بعد العصر: أريد أن أزورك، قال: إن بيتي بعيد. قلت له: سأرافقك ولو إلى رأس الجبل، وهذا الذي كان، فالرجل ذهب إلى رأس الجبل فبنى له عشا فيه.
وفي الطريق إلى المنزل كان يركز على أفكار (مالك بن نبي) عن صناعة البشر. ومما أذكره قوله إن شخصية مثل (حسن البنا) يجب أن لا تمر هكذا، بل لها سر صناعة ويمكن تكرار ذلك. ومن أمسك بسر الشيء أعاد تصنيعه.
وأعترف اليوم بأن هذا الفن بعيد المنال، سهل التعبير عنه. كمن يتحدث عن تركيب الكوليسترول وهو لم يسمع بعد بالكيمياء الحيوية. واليوم يقول (جون واتسون)، الذي اكتشف تركيب المادة الوراثية في الستينات، والتي انتهت بكشف الجينوم البشري كله مع مطلع القرن الحادي والعشرين: «إننا نحتاج إلى 300 سنة لفهم ما اكتشفناه، فكيف بالإنسان الذي يريد جودت تصنيعه؟ والجينوم البشري لا يزيد على التركيب المادي وليس النفسي أو الاجتماعي، بسبب تعقيد الموضوع النهائي ودخول عناصر لا نهائية في اللعبة».
وفي ما يتعلق بقبول الآخر، فجودت متسامح، وأذكر في جلسة له وهي الدرس الشهري عنده في أعلى الجبل في عشه بقاسيون، ويحضره عشرات الشباب مرة واحدة كل خميس مساء من مطلع كل شهر لتبادل الأفكار، وجاء (محمد شحرور)، صاحب كتاب «القرآن والكتاب قراءة معاصرة»، الذي أثار ضجة يومها وكان شحرور كالعادة يدخن بنهم ويتابع ارتشاف فناجين القهوة التركية طالبا لها باستمرار، وحصلت بينه وبين بعض الحضور مواجهات، وكان الكل ينظر باتجاه جودت ليعقب عليه؛ فأجاب بجملة لا أنساها: له الحق في أن يكتب تخيلاته، ولي الحق أن أرفض تخيلاته. فوضع شحرور يده على رأسه منحنيا، وقال: إنني أقبل هذا. والشاهد أن الشيخ على مذهب أن الخطأ يحق له أن يعيش، فكيف بغير الخطأ؟ ولكن هذه الجدلية هامة، لأننا معشر البشر مركبون على ارتكاب الخطأ والنسيان، ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا. وجودت لم يصوب شحرور كما لم يخطئه، وطرح مبدأ الحياة للجميع، لأن من يقتل الآخرين يفتح الباب لقتل نفسه، ومن يسمح للآخرين بالعيش يسمح لنفسه بالوجود.
كان شحرور في تلك الجلسة وهو يرتشف قهوته وينفث في وجهنا الأدخنة، وينفض طلبته كتفه من آثار دخان السجائر، تماما مثل تلامذة الصوفية مع الشيخ. وكان بين الحين والآخر يطالب بإيقاف المسجلة لأنه سيقول كلاما خطيرا. وكان الموقف ينجلي أن الكلام عادي، ولكن جو الرعب شل كل العقول بمن فيهم عقلاء القوم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى