شوف تشوف

الرأيالرئيسيةسياسية

التربية الإيجابية

 

مقالات ذات صلة

 

كنت أنتظر دوري في أحد صالونات التجميل بغرض تصفيف شعري. أتأمل من حولي بهدوء وأفكر مليا في ما سأحضر لوجبة العشاء.. فإذا بصوت مزعج يقطع حبل أفكاري ويعكر صفو هدوء المكان.. طفلة بعمر السبع السنوات تقريبا شرعت تركض في أرجاء الصالون وتصرخ بكلمات غير مفهومة.. تبعثر ترتيب المجلات فوق الطاولة تارة، وتشد قميص خبيرة التجميل تارة أخرى.. أبدت الحاضرات امتعاضهن من السلوكيات المزعجة لتلك الطفلة غريبة الأطوار، ليقطع حبل انزعاجنا صوت خافت ينادي ببطء: «أريزا جلسي ابنتي الله يهديك».. اعترتني لحظة إدراك وجودي معقدة جدا.. أريزا؟

ماذا تقصد هذه السيدة بمناداة ابنتها بهذا الاسم العجيب؟ هل الأم أجنبية مثلا؟ استسلمت لصوت «التبركيك» الداخلي واسترقت النظر للأم التي تجلس في زاوية منعزلة تتصفح هاتفها. حيث تبدو كأي سيدة بملامح مغربية عادية.. التفتُّ صوب الطفلة أتفحص ملامحها هي الأخرى لربما كانت نتاج زواج مختلط من مواطن إيطالي أو فرنسي.. غير أن الفتاة الصغيرة هي الأخرى تملك ملامح معظم الأطفال المغاربة.. شعرت بحيرة شديدة بسبب اسم أريزا، فهرعت إلى «جوجل» أبحث عن معنى وأصل التسمية لأتبين أن أريزا اسم عبري يعني ألواح الأرز أو شيء من هذا القبيل..

وأنا لا زلت أطالع هاتفي في محاولة لفهم لماذا أصبح معظم المغاربة يختارون لأبنائهم أسماء «إيكزوتيك» بغرض التميز ولفت الانتباه، إذا بي أتفاجأ بأن كائن الأريزا تحاول انتزاع هاتفي ورميه بعيدا.. صرخت في وجهها بحزم ثم تراجعت للحظة خوفا من رد فعل باقي الزبونات، غير أنهن بادرن بالانضمام إلى حركتي الاحتجاجية لتعبر كل واحدة منهن عن امتعاضها وانزعاجها من تصرفات الطفلة الأريزية الفوضوية.. نهضت والدتها من مكانها بحركات متثاقلة، فتنفس الجميع الصعداء.. وأخيرا ستقوم الأم بتنبيه ابنتها وتوبيخها على ما اقترفت في حقنا من إزعاج و«تشنضيل». فإذا بها تقف على مسافة أمان من ابنتها وتقول بصوت باهت: أريزا نو ماشيغي.. لتعود إلى زاويتها الهادئة تتصفح «الانستغرام» بكل روح رياضية.. سمعت كثيرا عن مفهوم التربية الإيجابية من قبل وكيف أنها وُجدت لكسر دائرة العنف والترهيب، والقطيعة الفكرية التامة مع أسلوب التربية التقليدية القائم على السلطة الأبوية المطلقة. غير أني، في تلك اللحظة الفارقة من عمر الزمن، تمنيت فعلا أن تتخلى أم أريزا عن نظريات التربية الإيجابية، وتمنح أريزا ما تيسر من «التمرميق»..

فما هو مفهوم التربية الحديثة التي اتخذت من الإيجابية شعارا لها؟

التربية الإيجابية نهج لتربية الأطفال يركز على التعاطف والاحترام والتفاهم والتواصل الإيجابي.. على عكس أنماط التربية التقليدية أو الاستبدادية التي قد تعتمد على العقوبة أو المكافآت للتحكم في السلوك، تركز التربية الإيجابية على تعزيز بيئة آمنة وداعمة حيث يمكن للأطفال أن يزدهروا نفسيا واجتماعيا. الهدف الأساسي للتربية الإيجابية هو تربية أطفال أذكياء عاطفيا ومنظمين ذاتيا وقادرين على إقامة علاقات صحية مع الآخرين.

أحد المبادئ الأساسية للتربية الإيجابية هو الاتصال العاطفي، ويؤكد على أهمية الانسجام مع عواطف الطفل واحتياجاته، والاستجابة بالتعاطف بدلا من نفاد الصبر أو الإحباط. وهذا يعني تخصيص الوقت لفهم الأسباب الكامنة وراء سلوك الطفل، سواء كان الإحباط أو الجوع أو التعب، وتوفير الراحة والتوجيه بطريقة هادئة ومحترمة. من خلال التحقق من صحة مشاعر الطفل وتقديم الدعم المستمر، تساعد التربية الإيجابية الأطفال على الشعور بالأمان والتقدير، وتعزيز الشعور القوي بقيمتهم الذاتية.

عنصر رئيسي آخر من التربية اللطيفة هو الانضباط الإيجابي. بدلا من اللجوء إلى العقاب، يوجه الآباء سلوك أطفالهم من خلال تحديد توقعات واضحة، وشرح عواقب الأفعال وتقديم بدائل للسلوكيات غير المرغوب فيها. والفكرة هي تعليم الأطفال عن تأثير أفعالهم وتشجيعهم على اتخاذ خيارات أفضل من خلال مساعدتهم على فهم سبب عدم قبول سلوكيات معينة، بدلا من التركيز فقط على العواقب الخارجية. على سبيل المثال، إذا ضرب طفل طفلا آخر، فقد يشرح الأب الإيجابي سبب ضرر الضرب ويقدم طرقا بديلة للتعبير عن الغضب أو الإحباط. في الوقت الذي يتبنى فيه الأب «السلبي» سياسة «لي ضربك ضربو».

تشجع التربية الإيجابية أيضا التواصل المفتوح والصادق. يتواصل الآباء مع أطفالهم بطريقة تحترم كرامتهم وفرديتهم. وهذا يعني تجنب اللغة المتعالية أو الرافضة، والانخراط بدلا من ذلك في محادثات تسمح للأطفال بالتعبير عن أفكارهم ومشاعرهم. لا يعمل هذا النهج على تعزيز الرابطة بين الوالد والطفل فحسب، بل يعلم الأطفال أيضا أهمية التواصل والاستماع باحترام في علاقاتهم مع الآخرين.

قد يزعم منتقدو التربية الإيجابية أنها قد تؤدي إلى التساهل أو عدم وجود حدود. ومع ذلك، فإن التربية الإيجابية لا تعادل السماح للأطفال بالتمتع بحرية التصرف. لا تزال الحدود مهمة، لكنها تُوضع باحترام وفهم لمرحلة نمو الطفل. تظل التربية الإيجابية أسلوبا تربويا ثوريا من أهم إنجازاته القطيعة مع دوامات التعنيف والترهيب التي أنتجت أجيالا من الأشخاص المرتبكين عاطفيا وعقليا. ولكن السؤال المطروح هنا، هل تنفع حقا التربية الإيجابية مع الكائنات الأريزية المشاغبة؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى