التاريخ المنسي للرگيبات.. منذ أيام الحسن الأول إلى الكوماندان لوزان
أوراق ساخنة جمعها محمد باهي أربعة مرات وسُرقت منه وأتلفت:
“سيرة حياة الشيخ الرگيبي وأحفاده كما جمعها الصحافي محمد باهي في مهمة شبه مستحيلة، رأت النور سنة 1998، سرعان ما جرى طمسها وإخفاؤها حتى لا تصل حقائق عن وهم الانفصال وحقيقة مغربية الصحراء، تستحق فعلا الوقوف عندها..
هذا الرجل الملقب بالليث، عاش في القرن 16 ميلادي. وكان أحد أشهر أسماء قبيلة الرگيبات التي دخلت في حرب ضروس مع الاستعمار الفرنسي.
كان أحد الذين بصموا على تاريخ الزوايا في الصحراء وتأثر بهم الأتباع من دول افريقية اعتنقت الإسلام، كما كان له مُريدون من الجزائر وموريتانيا أيضا، لكن المثير أن هذا الرجل لم تكن له زاوية، ولم يكن شيخ طريقة ولم يترك أبدا أي وثيقة منسوبة له تتحدث عن ترؤسه للتجمعات “الروحية”!
أبناء الشيخ الرگيبي وأحفاده دخلوا في حرب ضروس ضد الاستعمار، وكان اسمهم العائلي وحده كافيا لكي يتكتل حولهم المحاربون في الصحراء ويحملوا السلاح ضد الجيش الفرنسي بوحداته وقادته الخبراء في شن الحروب. وكان اسم “الليث” مصدر إلهام كبير لهؤلاء الصحراويين الذين أعلنوا وقتها أنهم في حرب ضد فرنسا، دفاعا عن المغرب، وليس ما روجت له الرواية الانفصالية لاحقا، من أن قبيلة الرگيبات واجهت فرنسا حماية لمصالحها الخاصة فقط. لنتابعيونس جنوحي
يونس جنوحي:
عسكريون فرنسيون خططوا لتحويل الصحراء سنة 1920 إلى باحة فرنسية
نحن هنا أمام أسماء ثقيلة من نخبة الجيش الفرنسي الذين تقلدوا المناصب الكبرى بعد نهاية الحرب العالمية الأولى. أغلب هؤلاء الذين سوف نتحدث عنهم في هذا الملف، صنعوا أمجاد الجيش الفرنسي وخبروا أصوات الانفجار وأولى عمليات استعمال الطائرات في قصف المواقع بالإضافة إلى خوض المعارك في ثلوج أوربا الشرقية. لكنهم تعرضوا لمقاومة شرسة عندما تعلق الأمر بمعارك الصحراء.
من أين استمد الصحراويون المغاربة تلك الصلابة اللازمة لمواجهة الاستعمار؟ سوف نأتي إلى تفاصيل هذا الموضوع لاحقا.
أما نخبة العسكريين الفرنسيين الذين اشتغلوا في عمليات الصحراء، فقد كانوا يعرفون جيدا أنهم يواجهون أحفاد قبيلة تعرفوا على طباعهم جيدا من خلال وثائق الأرشيف الفرنسية التي تعود إلى سنة 1880، عندما واجهت قبيلة الرگيبات محاولات إسبانيا إقامة شركات لها في قلب الصحراء المغربية للسيطرة على موارد الصيد البحري.
من بين هؤلاء العسكريين الحاكم العسكري الليوتنان كولونيل “گادن”، وهو الذي كان يعرف المنطقة منذ 1917، وخاض حربا ضروسا ضد قبيلة “الرگيبات” إلى درجة أنه طمح إلى تطويقهم والتحكم حتى في المناطق التي يجوز لهم الرعي فيها والأخرى التي لا يريد لهم فيها ذلك.
لكن النجومية، حسب الأرشيف الفرنسي، كانت من نصيل الكومندان “لوزان” الذي كان خبيرا كبيرا في العمليات العسكرية والإنزال. ووجد نفسه في الصحراء المغربية منذ 1920 مُجبرا على النزول إلى الأرض وتذكير من معه بأنهم أمام تحد كبير.
ورغم التطمينات التي كانت لديه من باريس، بخصوص نوعية البنادق العتيقة التي استعملها مقاتلو الرگيبات، إلا أنه تعرض لهزائم في قلب الصحراء رغم توفر عناصره على أحداث البنادق التي كانت نتيجة التفوق العسكري في الحرب العالمية الأولى.
الكومندان لوزان الذي حصل على رتبته العسكرية بفضل الكفاءة التي أبان عنها في صفوف الجيش الفرنسي، حاول قيادة عمليات سرية في الصحراء المغربية، لكنه تعرض لهزائم متلاحقة تسببت في أضرار كبيرة لمخزن السلاح لديه، إذ رغم الحراسة الكبيرة التي كان يوفرها لمخازن السلاح في مناطق كلميم، وجنوب أكادير، إلا أنه مُني بهزائم كبيرة واضطر إلى الاستعانة بنخبة من العسكريين الآخرين الذين سبق لهم مواجهة القبائل المغربية سنة 1914 في نواحي طاطا وزاكورة.
كان هذا الكومندان من الذين هندسوا أيضا للتفرقة بين قبائل الصحراء الكبرى، وافتعل نزاعا بين قبائل النفوذ الجزائري من خلال التحريض على نفوذ مناطق الرعي الخاصة بتلك القبائل. لكنه فوجئ سنة 1920 دائما، بأن البيعة التي تربط تلك القبائل مع العرش العلوي كانت أقوى من أن يتم اختراقها ببضعة عمليات عسكرية.
هذا المخطط الفرنسي الذي انكشف سريعا، والذي تسجله وثائق الأرشيف الفرنسي، انضاف إلى هزيمة فرنسا سنة 1902 لفرض سيطرتها على الصحراء المغربية، حيث اضطرت إلى السماح للقوات الإسبانية بموجب اتفاق ثنائي بمواصلة مساعيها الاستعمارية في الصحراء، ولم يصدق الفرنسيون أنفسهم عندما استنجدت بهم إسبانيا بعد عشرين سنة لكي يساعدوا على تأمين السواحل في الصحراء لتسهيل عمليات التبادل التجاري وتصدير المواد الأولية من الصحراء إلى الموانئ الفرنسية والإسبانية. وظنوا في البداية أن المهمة سوف تكون سهلة. لكنها لم تكن كذلك.
محمد باهي وأسرار نفض الغبار عن وثائق أجنبية تؤرخ لحياة أحمد الرگيبي
كان معروفا عن الصحافي المغربي محمد أحمد باهي، حبه الكبير لتاريخ الصحراء. وقد استغل مقامه الطويل في باريس، لكي ينقب في وثائق الأرشيف المتعلقة بالصحراء المغربية، وخرج بخلاصة كبيرة مفادها أن سيرة الشيخ “سيدي أحمد الرگيبي” الذي عاش قبل الاستعمار بقرون، كانت تتحكم في مشاعر أحفاده الذين حملوا السلاح في وجه فرنسا، وقادوا أكبر عملية مقاومة في الصحراء المغربية. والمثير أن هذا الصحافي الذي أخرج سنة 1998 كتاب “الليث سيدي أحمد الرگيبي”، لفت الانتباه إلى أن هناك أدلة في قلب الأرشيف الإسباني تؤكد أن الصحراء كانت دائما مغربية وأن محاولات تقسيمها لم تبدأ إلا مع الاستعمار، وأدلى بوثائق لزيارة المولى الحسن الأول الذي حكم المغرب إلى حدود سنة 1894 قد زار الصحراء المغربية في مناسبتين وحظي باستقبال غير مسبوق من طرف الصحراويين الذين استنجدوا به بصفته سلطانا للمغرب لكي يضع حدا للتوغل الإستعماري في البلاد، وفعلا رفض السلطان وجود شركة إسبانية ورفض الترخيص لإقامة مصرف أوربي في قلب الصحراء.
المولى الحسن الأول كان يعرف جيدا سيرة سيدي أحمد الرگيبي والتقى أحفاده خلال زيارته إلى الصحراء وحيّى فيهم روح الجهاد. لكن المعارك الحقيقية التي خاضها أبناء وأحفاد قبيلة “الركيبات” ضد الاستعمار لم تبدأ في الحقيقة إلا في سنة 1920 حيث أقر الإسبان بهزيمتهم أمامهم واستنجدوا بالجيش الفرنسي الذي تلقى بدوره درسا كبيرا في المقاومة.
يقول الصحافي محمد باهي متحدثا عن قصته مع سيرة الشيخ الرگيبي:
” شغلتني الكتابة عن الشيخ الولي الصالح سيدي أحمد الركيبي، منذ زمن بعيد. فقد وعيت على الدنيا وأنا أسمع عنا وعن أبنائه وأحفاده الشيء الكثير، من أفراد العائلة الذين ينتسبون إلى الشيخ. وحينما بلغت سن الشـبـاب، وكان الاهتمام بالصحراء وأهلهـا وشيوخها وقبائلها قد بلغ مبلغا كبيرا، أقدمت على كتابة ما تجمع لدي من روايات متفرقة في محاولة للتعريف بهذا القطب الرباني الذي تروى عنه كرامات وأحوال، لا يتصف بها إلا الأولياء حقا.
وضاع ما جمعت وما كتبت، في غمرة الأحداث وتعاقب الحوادث والأيام. ثم حاولت للمرة الثانية. إعادة الكرة، بعدما تجمع لدي فيض من الروايات الشـفـوية والقراءات التـاريـخـيـة عن الشـيـخ وعـصـره، رغم أن المكتوب، لا يكاد يذكر أمام المروي من أفواه الشيوخ. ولم يكتب لتلك المحاولة أن تر النور. وشاءت الأقدار، ومعها الرغبة الجامحة، أن أقوم بزيارتي الأولي للصحراء المغربية في ماي 1975، قبل المسيرة الخضراء بستة أشهر، حيث أمكنني الاتصال المباشر بالساقية الحمراء وأهلها، ومعرفة الكثير والجديد عن الشيخ سيدي أحمد الرگيبي.
(..) قامت زمرة المرتزقة بحملة شرسة همجية وعدوانية أطلقت عليها شعار “محاربة القبلية”، كان الهدف منها إسكات كل صوت يتحدث عن الأنساب والأرحام والأصول والفروع والآباء والأجداد.. وتعرض ما كتبت في نواحي تندوف عن الشيخ سيدي أحمد الرگيبي للسرقة والضياع. وهذه هي المرة الرابعة التي أحاول فيها تدوين ما استطعتُ، عن حياة الشيخ وأرجو من الله أن يكون بداية ونبراسا لكتابات قادمة حول شيوخ الصحراء المغربية، وأوليائها وقبائلها كافة”.
رحل محمد باهي عن الحياة وهو يحمل ذلك الحلم، خصوصا وأنه عاش كواليس إطلاق وتأسيس البوليساريو وكان أكبر رافض لعملية طمس التاريخ المغربي للصحراء والانقياد وراء التمويل لتقسيم الصحراء ما بعد سنة 1975. لذلك تناسلت روايات كثيرة تضرب في مصداقية ما نقله محمد باهي، الذي كان يعرف الصحراء أكثر من أولئك الذين كانوا يتحدثون باسمها في المحافل الدولية ويتسولون باسم الصحراويين واغتنوا بأموال الدعوة إلى الانفصال عن المغرب.
++++++++++++++++++++++++
من كان وراء عملية “اليد الممدودة والسلاح تحت الرجل”؟
قيل قديما إن تاريخ المغرب الحقيقي، هو تاريخ القبائل. اختُلف حول مصدر هذه المقولة البليغة، لكن هناك إجماع كبير على أن قبائل الصحراء لعبوا دورا كبيرا في كتابة تاريخ البلاد، والبلدان المجاورة أيضا.
من بين الملفات المنسية التي كساها الغبار، تلك التي تتعلق بمحاولة تطويق قبيلة الرگيبات عسكريا، بشكل مدروس من باريس، وعلى يد عمالقة الجيش الفرنسي الذين تألقوا في الحرب العالمية الأولى.
فقد تحدث محمد أحمد باهي عن هذه الكواليس عندما تطرق لحياة سيدي أحمد الرگيبي، واعتمد وثائق من الأرشيف الفرنسي الرسمي في هذا الباب.
جاء في ذكر تفاصيل هذه القضية، ما يلي:
“للرد على مقتل محمد تقى الله الملقب ” وجاه “، قرر أحمد ولد حمادي شيخ السواعـد في ركيبات الساحل، واسماعيل ولد الباردي، مهاجمة کز تكانت سنة 1924، واستولى أتباعهما على 200 جمل، فحاول الليوتنان CHALMEL التصدي لهم لكنه انهزم في المعركة التي وقعت في منطقة – لگدیم ، بالقرب من باب وادان . فاقترح الكمندان Tranchant على حكومته إنشاء مراكز عسكرية في منطقة كدية الجل لمراقبة الركيبات.
وحاولت فرنسا توحـيـد سياسة سلطاتها الموجودة في الجزائر وموريتانيا لفرض حصار على القبائل الصحراوية. فاجتمع الكومندان LAUZANNE ( لوزان ) والقبطان « augires أوجيراس » بالغرب من بئر ولمزارب » سنة 1920 لوضع خريطة تتعلق بالمناطق التي تنتجـعـهـا قـبـائل ركيبات الشرق.
وبعـد وفــاة الـشـيـخ مـحـمـد ولد الخليل سنة 1925، قرر الحاكم العسكري GADEN نهج سياسة جديدة تجاه قبائل الركيبات أطلق عليها اسم « اليد الممدودة والسلاح تحت الرجل »، لكنها لم تحد من الهجومات التي قام بهـا اسماعيل ولد البردي في منطقة الترارزة سنة 1926. « وتمكن المبعوث الفرنسي من الحصول على مـوافـقـة الاسبان بالسماح للطائرات الفرنسية بملاحقة ” الأعـداء ” داخل منطقة وادي الذهب، لكنه فشل في إقناع شيوخ القبائل في إطلاق سراح الطيارين الذين سقطا في وادي الذهب سنة 1928.
ومن بين الشيوخ الرافضين نذكر محمد عبد الرحمان وعلي ولد الخليل شيخ التهـالات وابراهيم ولد عبد الله ولد علي ولد البلال. وقررت فرنسا من جهتهـا إنشاء مراكز عسكرية بالقرب من سبخة ” ايجيل ” سنة 1929 لمراقبة تحركات الركيبات، وربطت الاتصال بين مراكز أطار وواحة توات في نفس السنة. وتجددت الهجمات سنة 1930 وتمكن أحمد ولد. مادي رفقة بعض أتباعه من الركيبات. من مهاجمة حامية فرنسية بالقرب من كدية – ايجيـل – وللرد علي ذلك، جهز حاكـم شـفـيـط القبطـان le cocq حملة عسكرية، وتمكن من التوغل داخل منطقة وادي الذهب.
وهاجم بعض خيام الركيبات بالقرب من كلتة. وهاجم مـحـمـد المامون، وأحمد حمادي، وعلي ولد ميارة، رفقة 150 من أتباعهم مركز إطار، وتمكن علي ولد ميارة من التسلل إلى داخل المركز واستولى على كمية هامة من السلاح. سنة 1932 هاجم أحمد ولد حمادي وعلي ولد ميارة مـركـز ادرار واستولوا علي 1000 ( ألـف ) مـن الجمال. كما هاجم أولاد موسى مر مركز الحوض. سنة 1933 تمكن القبطان le cocq من الهجوم على خيام السواعد سنة 1930. زمور والتهـالات من ركيبات الساحل، وخيام الفقرة من ركيبات الشرق، وقتل في هذا الهجوم على ولد ميارة، أما احمد ولد حمادي فقـد فر إلى وادي الذهب.
واضطرت اسبانيا إلى التفاوض مع فرنسا لحماية مراكزها من أي هجوم، وانتهت المفاوضات بالتوقيع على اتفاق بينهما في بئر أم كرين في 21 دجنبر 1934 تعهدت فيه اسبانيا ببناء مراكز جديدة بالقرب من كلتة زمور، وأدرار سطف، وتيرس لمراقبة تحركات الركيبات”.
هذه العملية المنسية التي توجد تفاصيلها كاملة في الأرشيف العسكري الفرنسي، عاش زعماء قبائل الرگيبات أحداثها، ونقلوا بعض مضامينها التي عاشوها من جهتهم، عبر الرواية الشفاهية إلى الأجيال الأخرى، ولولا التوثيق العسكري لها، لدُفنت أسرار عسكرية كثيرة مع أصحابها.
الحياة المنسية للشيخ سيدي أحمد الرگيبي..
هذا الرجل الملقب بالليث، عاش في القرن 16 ميلادي. وكان أحد أشهر أسماء قبيلة الرگيبات التي دخلت في حرب ضروس مع الاستعمار الفرنسي.
كان أحد الذين بصموا على تاريخ الزوايا في الصحراء وتأثر بهم الأتباع من دول افريقية اعتنقت الإسلام، كما كان له مُريدون من الجزائر وموريتانيا أيضا، لكن المثير أن هذا الرجل لم تكن له زاوية، ولم يكن شيخ طريقة ولم يترك أبدا أي وثيقة منسوبة له تتحدث عن ترؤسه للتجمعات “الروحية”!
لكن الهالة التي أحاطت به وسط أبناء قبيلته، جعلته يتجاوز في مكانته، المكانة التي وصل إليها شيوخ الطرق الصوفية.
ما الذي جعل هذه الشخصية تحظى بهذا الاهتمام؟
أبناء الشيخ الرگيبي وأحفاده دخلوا في حرب ضروس ضد الاستعمار، وكان اسمهم العائلي وحده كافيا لكي يتكتل حولهم المحاربون في الصحراء ويحملوا السلاح ضد الجيش الفرنسي بوحداته وقادته الخبراء في شن الحروب. وكان اسم “الليث” مصدر إلهام كبير لهؤلاء الصحراويين الذين أعلنوا وقتها أنهم في حرب ضد فرنسا، دفاعا عن المغرب، وليس ما روجت له الرواية الانفصالية لاحقا، من أن قبيلة الرگيبات واجهت فرنسا حماية لمصالحها الخاصة فقط. إذ أن أطروحة الاستقلال عن المغرب لم ترد إلا في السبعينيات، وكان قادة “الرگيبات” على رأس التيار الرافض للبوليساريو.
وعن الشيخ سيدي أحمد الرگيبي، يقول محمد أحمد باهي:
“والباحثون والكتاب الأجانب – مدنيين وعسكريين – الذين اهتموا بحياة الشيخ سيدي أحمد الركيبي ابتداء من نهاية القرن 19 ومطلع القرن 20 م. كان اهتمامهم مرتكـزا بالأساس على قبيلـة – الركيبات – التي أصبحت كبرى قبائل الصحراء المغربية، وأصبحت البلاد الصحراوية تسمى ب و تراب الركيبات، وتمتد على مساحة تقدر بحوالي 400 ألف كلـم2. وهـذه القبـيـلـة التـي توسعت وانتشرت بعد ثلاثة قرون من وفاة مؤسسها، هي التي قادت الجهاد ضد الغزاة الأجانب في كل المناطق الصحراوية شرقا وجنوبا.
لذلك فإن الكتابات الأجنبية، حاولت دراسة تركيبة القبيلة وأصولها وفروعهـا وأعراشـها وطبيعة أهلها، وعجزت عن إبراز شخصية الشيخ المؤسس ولذلك أيضـا أسـبـاب وخلفـيـات، لعل أهمها أن شيـوخ القـبـيـلة وأفرادهـا كـانـوا يرفـضـون لأسبـاب روحـيـة ودينية، الـتـحـدث مع النصـارى حـول ولي من الأولياء له قداسـتـه ومكانته الروحية والدينية المتميزة.
ونجد أن جل الركيبات، رفضوا باستمرار وإلى عهد الاستقلال الوطني، الاقتراب من الأجانب المسيحيين أو الاختلاط بهم والتعامل معهم، وفضلوا في كثير من الحالات الرحيل والابتعاد عن الأماكن التي يتواجد فيهـا هـؤلاء الأجانب بعـدمـا تمكنوا من السيطرة العسكرية على جـل مناطق البلاد”.
جوانب منسية من حياة أقدم مؤسسي المقاومة في الصحراء
تطرق باهي في هذه المحاولة التوثيقية النادرة والمفصلة تفصيلا دقيقا، إلى بعض الوجوه من سلالة “الليث” الرگيبي وأحفاده، والأدوار التي لعبوها في مواجهة الاستعمار.
يقول:
“وتروي الوثائق الفرنسية والإسبانيـة كـمـا يسجل الكتاب الأجانب والضباط العسكريون الذين عاشوا في تلك الفترة شهادات حية عن جهاد الركيبات وتجندهم الشامل ودفاعهم المستميت عن بلادهم ودينهم ومواجهة الغزو المسيحي بكل إباء وشجاعة. ومن ذلك يقـول بول مارفتي: “جهز الحاكم العام لموريتانيا الليوتنان كولونيل Mouret سنة 1913 حملة عسكرية تتكون من 350 جنديا، وهزم بعـض محاربي الركـيـبـات، وتوغل داخل منطقـة الـسـاقـيـة الحمراء، وخرب زاوية السمارة التي بناها الشيخ ماء العينين. وللرد على ذلك، هاجمت قبائل الركيبات واولاد دليم خيام بعض القبائل القاطنة بمنطقة الحوض المتعاونة مع الفرنسيين في أكتوبر 1913 ). وبسبب الجفاف الذي أصاب منطقة وادي الذهب سنة 1914 قرر قائـد ركيبات الساحل محمد ولد الخليل، عقد معاهدة سلم مؤقتة مع سلطـات فـرنـسـا بأدرار للسماح له بانتـجـاع مراعـي موريتـانـيـا، فـوافق PONTY، واشترط عليه عـدم مشاركة أتباعـه في أي هجوم ضـد المراكز الفرنسية و بعد حصولها على كمية هامة من السلاح من القنصل الألماني السابق بالمغرب Prabster هاجمت قبائل الركيبات مركز أدرار، واستولوا على 50 من الإبل سنة 1916”.
وحاول الحاكم العسكري الفرنسي الليوتنان كولونيل GADEN سنة 1917 سن سياسة جديدة مع الركيبات تقوم علي أساس السماح لهم بانتجاع مـراعي منطقة أدرار، ومنحهم حرية التنقل والاتصال بدون وسيط بالسلطات الفرنسية بموريتانيا، مقابل تعهدهم بعـدم مـهـاجـمـة القـوات الفرنسية أو تقديم أية مساعدات لكل ثائر ضد فرنسا، فحل محمد ولد الخليـل بسـان لـوى سنة 1917 ووقع معاهدة سلم مؤقتة مع GADEN وحذت حذوه بعض القبائل الأخرى. وتعهدت بعدم مهاجمة الحوض وأدرار. وأرسل رگيبات الشرق بعثة بقيادة السالك ولد البلال، والسالك ولد الشيخ إلى مركز أطار، ووقعوا معاهدة مماثلة مع حاكمه بلوك.
وحاولت فرنسا توحيد سياسة سلطاتها الموجودة في الجزائر وموريتانيا لفرض حصار على القبائل الصحراوية، فاجتمع الكوماندان لوزان والقبطان أوگيريز، بالغرب من بئر المزاب سنة 1920 لوضع خريطة تتعلق بالمناطق التي تعيش فيها قبائل رگيبات الشرق.
المولى الحسن الأول زار الصحراء سنة 1888 ورفض إنشاء مصارف أجنبية بها
عُرف عن المولى الحسن الأول أنه سلطان عاش فترة حكمه فوق ظهر حصانه. إذ أن كتاب أجانب، صحافيين ودبلوماسيين، بالإضافة إلى كتاب مغاربة، علماء ووزراء ومؤرخين، أجمعوا أن المولى الحسن الأول قضى أغلب سنوات حكمه متجولا بين الأقاليم لاستتباب الأمن والوقوف بنفسه على إخماد التمرد الذي كاد أن يودي بالمغرب إلى الانقسام.
لكن جانبا مهما من حياته لم يُسلط عليه الضوء، خصوصا رحلته إلى الصحراء.
إذ أن المولى الحسن الأول زار الأقاليم الصحراوية سنة 1880، في إطار مواجهة المحاولات الإسبانية الاستعمارية الأولى في الصحراء وقتها. إذ أن السلطان رفض أمام ممثلي القبائل الذين خرجوا لاستقباله الترخيص للإسبان لكي ينشئوا مصارف أجنبية، إسبانية وأوروبية أخرى، على الشواطئ المطلة على المحيط الأطلسي.
إذ أن الشركات التجارية الأوربية كانت تخطط لإنشاء خطوط تجارية وتوفد ممثلي شركات لاستيراد المواد الخام المغربية من الصحراء وتوجيهها نحو إسبانيا. وهو ما كان السلطان يرفضه تماما.
لكن هؤلاء الأجانب لم يفقدوا الامل، إذ سنة واحدة فقط بعد زيارة المولى الحسن الأول إلى الصحراء، جاء وفد يمثل بعثة من إيطاليا وأخرى من ألمانيا وإسبانيا، وبدأ محاولات أخرى لتأسيس شركات تنشط في مجال الصيد.
وفي ظروف ملتبسة لا تتوفر معلومات وافية بشأنها، فقد نجح هؤلاء في الأخير، في تأسيس بنك عرف لاحقا ببنك وادي الذهب والرأس الأبيض.
لم يكن يعني هذا أن سياسة مولاي الحسن الأول قد باءت بالفشل، ولكن بسبب الظروف التي كانت تمر بها البلاد، وأيضا لأن الإسبان كان لديهم حضور في بعض السواحل المغربية الأخرى، فقد تمكنوا من بداية الاشتغال على الشركات الأولى في الصحراء، دون أي حاجة لاستعمال الخيار العسكري. لكن الوضع لم يدم طويلا، وسرعان ما انبرى أبناء قبائل الصحراء لكي يذكروا القوات الإسبانية أنهم يرفضون أي وجود أجنبي هناك.
إسبانيا كانت وقتها تعامل سكان منطقة الصحراء على أنهم مغاربة. والدليل أنه في يوم 26 دجنبر 1884، وجهت الحكومة الإسبانية مذكرة إلى دول أوربية تخبرها فيها بأنها بسطت حمايتها على ممتلكات السلطان المولى الحسن الأول في الصحراء، بهدف إحلال الأمن. والمثير أن السلطان المولى الحسن الأول بعث سفراء يمثلونه لدى الدول الأوربية التي توصلت بالمذكرة الإسبانية، لكي يعبروا عن موقف السلطان الرسمي منها ورفضه لها.
وبغض النظر عن المآل الذي صارت إليه الأمور بعد تلك المذكرة وموقف الدول الأجنبية منها، إلا أنها تبقى أكبر دليل على أن إسبانيا كانت تعامل منطقة الصحراء وقتها على أنها إقليم مغربي، واعترفت في تلك الوثائق أن المنطقة كلها تُظهر ولاءها للسلطان الحسن الأول وترفض “التطبيع” مع إسبانيا.
في نفس السنة، سوف تعلن إسبانيا أنها استعمرت منطقة الصحراء المغربية وأنها صارت تابعة لها. لكن التدخل العسكري الفرنسي بعد ذلك، جعل الأوضاع تزداد تأزما، فخرجت قبائل الصحراء لمواجهة النفوذ الاستعماري.
المثير أن المولى الحسن الأول، بعد كل هذه التطورات، حل مرة أخرى في الصحراء في نفس السنة، أي في سنة 1884، واستغرقت زيارته في المرة الثانية عدة أشهر. وكان الهدف منها، تعيين قياد وولاة جدد في الصحراء، وأنشأ فيها مراكز عسكرية لتقوية الخطوط الدفاعية المغربية أمام الإسبان.
استغل زعماء قبائل الصحراء زيارة المولى الحسن الأول لكي يعبروا له عن استيائهم الكبير من المعاملة السيئة و”الوحشية” التي كان يعاملهم بها الإسبان.
ولأن إسبانيا لم تظهر وقتها أي محاولة لتجاوز الاحتقان، فقد كانت النتيجة أن السكان قد هاجموا شركة إسبانية اسمها “الترانزتلانتيك”، وكانت تنشط في المجال البحري والصيد في الشواطئ الصحراوية.
بعد وفاة المولى الحسن الأول بسنة واحدة فقط، أي سنة 1895، وقع المغرب اتفاقا مع بريطانيا، يرمي إلى إعادة بناء طرفاية، وجاء في الاتفاق مع لندن اعتراف صريح بأن الصحراء مغربية لا تتجزأ. وبدا واضحا وقتها أن مسلسل الأحداث في الصحراء سوف يشهد تطورات أخرى، بحكم أن فرنسا كانت قد دخلت على الخط لتقسيم المستعمرات مع إسبانيا، خصوصا بعد سنة 1902.