البوليس و«الخبر».. والبخاري حاطب ليل!
هذه الحلقات عبارة عن مقتطفات من سلسلة مقالات وحوارات للراحل، الكاتب والمفكر وعالم الاجتماع محمد عابد الجابري، الذي كان ينشرها في سلسلة باسم «مواقف»، وهي عبارة عن مذكرات سياسية وثقافية تؤرخ للحركة الوطنية، كما تعكس مراحل تطور الوعي العربي بصفة عامة، إذ تغطي المدة الفاصلة بين سنتي 1959 و2002، وما عاشه خلالها عابد الجابري في مساره السياسي والفكري.. قبل تجميعها في كتاب «في غمار السياسة.. فكرا وممارسة». وعن هذه النصوص يقول الجابري في مقدمة الكتاب: «إنها ثلاثة أصناف: صنف ينتمي إلى المذكرات السياسية، وصنف يعرض مواقف فكرية وثقافية، وصنف يقع على ضفاف السيرة الذاتية… وفي هذه الأصناف الثلاثة سنبحر من خلال الحلقات التي بين أيدينا:
أولا: تجربة مؤسسة..
كانت تجربتي في جريدة التحرير أغنى وأغلى شيء في حياتي. كانت بحق تجربة مؤسسة: ففيها دخلت النضال السياسي والصحفي من بابه الواسع. وبفضلها أصبحت معروفا من جميع الاتحاديين تقريبا، وأيضا من غير الاتحاديين، بما في ذلك «رجال الوقت». وفي التحرير صرت بالفعل، وسط قيادة الحزب، صديقا ورفيقا وأخا موضوع ثقة الجميع. وبممارسة الكتابة السياسية في التحرير، على أساس «الخبر» الذي يأتي به من زودته و»من لم تزود»تعلمت كيف أكتب وأنتبه، في الوقت نفسه، إلى القراءات الممكنة لما أكتب. وبفضل هذا النوع من الممارسة استطعت أن أكتب أقوى كتابة وأعنفها ولكن دون أن يجد «القراء» المختصون في قراءة النوايا سبيلا إلى اتهامي بشيء، ودون أن يتسبب ما كتبت في حجز أو توقيف! والقصة كانت كما يلي:
ثانيا: ضيق المكان.. وكثافة الزمان!
كان مقر هذه الجريدة في مطبعة أمبريجيما الكائنة بزنقة لاكارون رقم 46، على امتداد الشارع الذي يصل سينما شهرزاد بعين البرجة وقريبا من شارع ابن تاشفين، بالدار البيضاء. كانت هذه المطبعة في الأصل في ملك إحدى النقابات الفرنسية كشركة مساهمة. وقد أهدتها للنقابيين المغاربة وكان للأخ عبد الرحمان اليوسفي فيها أسهم، بوصفه من العاملين في الحقل العمالي، إلى جانب آخرين من قادة الحركة العمالية المغربية، وكان الأخ اليوسفي وآخرون قد سلموا أسهمهم للاتحاد المغربي للشغل، فأصبحت كلها ملكا لهذا الأخير.
كانت مطبعة متواضعة: في الطابق الأرضي منها آلة سحب الصحف من النوع القديم، وإلى جانبها الورق وغيره مما يدخل في عملية السحب، على يمين الداخل إلى المطبعة، قرب الباب مباشرة، سلم يقع في منتصفه مكتب مدير المطبعة وكان فرنسيا يدعى كالفون. أما المكلف بالاتصال به من قيادة الاتحاد المغربي للشغل فكان المرحوم التيباري، وقد حل محله فيما بعد. وعند نهاية السلم إلى أعلى، على اليسار، كان مكتب جريدة لافنكارد الأسبوعية الفرنسية التي كان يصدرها الاتحاد المغربي للشغل، وهي قاعة واسعة من نحو أربعة أمتار على ثمانية. وإلى اليسار كانت قاعة مماثلة خاصة بجريدة الطليعة الأسبوعية العربية لسان الاتحاد المغربي للشغل. وبجانب هذه القاعة على اليسار، دائما، كانت هناك مساحة فارغة وزعت إلى أربع غرف صغيرة من مترين على ثلاثة، أعدت كمكاتب لجريدة التحرير. كانت الغرفة الأولى لمحرر الأخبار (عبد السلام البوسرغيني أساسا، يستمع إلى الإذاعات ويترجم من وكالة الأخبار الفرنسية «فرانس بريس»، إذ لم تكن وكالة المغرب العربي للأنباء قد ظهرت للوجود بعد). أما الغرفة الثانية فكانت لمحرري المراسلات الداخلية والمصححين (كانا اثنين سنتي 1959 ـ 1960 وهما مصطفى العماري وإبراهيم كامل، ونادرا ما ينضاف إليهما ثالث)، والغرفة الثالثة للمحررين (مكتب المرحوم باهي خلال السنتين المذكورتين، وكان مختصا بالسياسة الدولية وحركات التحرر الإفريقية). والغرفة الأخيرة وتقع في نهاية الشريط وبنفس حجم الغرف الأخرى ‘مترين على ثلاثة) كانت مكتبا لسكرتير التحرير كاتب هذه السطور. أما رئيس التحرير عبد الرحمان اليوسفي فلم يكن له في تلك الفترة مكتب خاص، فكان يجلس مع سكرتير التحرير أو في غرفة التحرير إذا كانت فارغة. أما مدير الجريدة محمد البصري فكان ينزل «ضيفا» على مكتب سكرتير التحرير حين يزور الجريدة مرة في اليوم أو في يومين حسب ظروفه. وكذلك الشأن بالنسبة للشهيد المهدي. ولم يحصل الأخ رئيس التحرير على مكتب خاص به إلا عندما انتقل مكتب تحرير جريدة الطليعة إلى برصة الشغل. وبطبيعة الحال لم تكن هناك، لا في مكتب رئيس التحرير عندما أصبح له مكتبا ولا في المكاتب الأخرى، أرائك ولا «فوطويات»، وإنما كراس حديدية صلبة أو خشبية قديمة تتمايل بالجالس عليها.
وإنما كان مكتب سكرتير التحرير في آخر الشريط لأنه من هذا الموقع كان يطل مباشرة على آلات الرقن (الينوتيب) وطاولة التصفيف، والكل كان يتم على الرصاص. فكان على سكرتير التحرير أن يقف مع مصففي المواد على صفحات الجريد يرتب مواد كل صفحة حسب الأولوية والأهمية ونوع القراءة التي يمكن أن يقرأ بها الخبر أو التعليق بناء على عنوانه وموقعه من الجريدة ومن الصفحة. هذا إضافة إلى الكتابة باستمرار: كتابة التعاليق، مراجعة الأخبار والمراسلات… إلخ. وعلى الجانب الأيمن من آلات الرقن وطاولة التصفيف كانت آلة الضغط التي تدخل فيها الصفحات المنظمة المنتهية، وكلها أسطر من الرصاص، لتنقش على ورق خاص ثم لتركب بعد ذلك في آلة السحب.
ولم تكن الغرفة الخاصة بسكرتير التحريرتخلو من زوار من المسؤولين الاتحاديين ومن غيرهم، فكان العمل، بما فيه الكتابة والهاتف والزيارات، يتم في زمن مكثف إلى أقصى حد. وكانت انعكاسات هذا الزمن المكثف على الأعصاب تتم لحظيا وبشكل مباشر. ونظرا لقدم آلات الرقن وعدم كفايتها، ونظرا لطول عملية الطبع، ونظرا لكون كل مواد الجريدة تكتب بالخط اليدوي، إذ لم تكن هناك أية آلة كاتبة في أي مكتب، ولا في المطبعة كلها باستثناء واحدة قديمة عند مديرها، ونظرا.. ونظرا، فقد كان على سكرتير التحرير، أن يحضر إلى مقر الجريدة حوالي التاسعة صباحا ليعود إلى منزله في الثانية عشرة والنصف للغذاء، ثم ليرجع توا إلى مقر الجريدة في الثانية بعد الظهر ليستمر في العمل إلى العاشرة أو الحادية عشر ليلا. وإذا هو رغب في انتظار طبع الجريدة وأخذ نسخة منها معه فقد كان عليه أن ينتظر حتى بعد منتصف الليل. هذا إذا لم تصب آلة السحب بعطب، الشيء الذي كان يحدث باستمرار. وقد يستلزم إصلاح العطب أحيانا ما يفوق الساعة والساعتين. وفي هذه الحالة كان لابد من اغتنام الفرصة لمواصلة تهييء مواد العدد الموالي. هكذا كانت تتم الأمور في السنة الأولى من عمر التحرير والرأي العام التي حلت محلها، كما سنبين ذلك في حينه. ومع مرور الوقت وتراكم التجربة استطعنا أن نجعل عملية السحب تتم في الثامنة مساء مما مكننا من إدراك وسائل المواصلات: القطار والحافلات لإرسال الجريدة إلى المدن الأخرى.
ثالثا: الألفة التي تولد صداقة صامتة.. مع البوليس!
أما في الدار البيضاء فقد كان الباعة المتجولون الخاصون بـ التحرير يرابطون على باب المطبعة، ابتداء من السابعة أي قبل طبعها بأكثر من ساعتين. وكانوا يتنافسون، ولكن أيضا كانوا متضامنين خصوصا عندما تكون الجريدة تحت الرقابة البوليسية، فكانوا يلعبون «العبارة» مع رجال البوليس السري، الذي لم يكن سريا إلا بالاسم لأن حضروه الدائم أمام باب المطبعة وبجوارها قد جعلهم يتصرفون من غير سرية. وفي أيام خضوع التحرير للرقابة المباشرة، بعد نشر مقالة أو خبر يخز السلطات وخزا، كانت المطبعة تحاصر بسيارة رجال الشرطة الرسميين، فرقة «السيمي» في الغالب، لمنع الجريدة من الخروج، إلى أن تعود الشرطة السرية برخصة «الخروج». كانت هذه الأخيرة تذهب بأعداد منها إلى إدارة الأمن بالبيضاء، ومن هنا تقرأ بالهاتف على مسامع الذين يهمهم الأمر في الرباط، ثم بعد «المشاورة»، التي قد تطول ساعات، يأتي الإذن بالسماح بالصدور أو بالحجز، يحمله شفويا البوليس السري دائما، وكثيرا ما كان الحجز يتم دون إخبار، وإنما هو استمرار منع خروج العدد من المطبعة طول النهار!
فإذا صدر الأمر بالصدور عدنا في اليوم التالي لإصدار العدد الجديد. أما إذا صدر الأمر بحجز العدد فموقفنا كان يختلف باختلاف ظروف الصراع وحدته. فإذا كان الصراع غير مشتد سحبنا الخبر أو التعليق الذي نعرف سلفا أنه سبب الحجز. أما إذا كان الصراع في أوجه فكنا نصدر في اليوم التالي العدد المحجوز نفسه مع تغيير التاريخ وبعض الأخبار الدولية فقط. أما الخبر أو التعليق الذي كان سبب الحجز فنتركه في مكانه كما هو. وقد يحجز العدد من جديد مرة أخرى أو أكثر من مرة. حتى إذا شاع الخبر أو التعليق عن طريق الأعداد المهربة أو راديو المدينة صرفنا النظر عن الموضوع.
لم تكن الشرطة تخبرنا أبدا بسبب الأمر بالحجز، ولربما لم تكن هي نفسها تعرف، ولكننا كنا نحن نعرف «خروب بلادنا»، وأخبار الحاكمين كانت عندنا ربما بنفس الدرجة التي كانت أخبارنا عندهم، وأحيانا كنا نتفوق عليهم، فكنا نفاجئهم ولم يكونوا يفاجئوننا. وفي الغالب كنا نتوقع الحجز قبل وقوعه، وأحيانا كنا نعرف أن خبرا ما أو تعليقا ما كان سيحمل المسؤولين على حجز العدد حتما، ومع ذلك كنا ندرج الخبر أو التعليق، عندما يكون الهدف مواجهتهم بالحقيقة التي نعرف أنهم يتسترون عليها.