البقشيش
ولدت وترعرعت تحت كنف والدي. أمي لم تتابع تعليمها. وجهت منذ الطفولة للأشياء التي تخدم دورها كزوجة وكأم. كيف تطبخ، كيف تعد الخبز، كيف تعد الحلويات وتزينها، كيف تعد المشروبات، الحساء والعجائن وكيف تهتم بالأطفال، كيف تقتصد وتوفر دراهم اليوم الميسور لليوم المعسر.. كانت أفضل من المتعلمات في تدبير شؤون البيت. أما عن الثقافة فكانت فقيرة شأنها شأن قريناتها.. في أوقات فراغها كانت تهتم بأشغال الإبرة والصوف.. تزين البيت بالديكورات التقليدية وتثرثر مع صديقاتها الجارات عند المساء. كن يجتمعن بحينا حي البركات، إذ تخرج كل واحدة قطعة من جلد الماعز أو الخراف تفرشها وتجلس عليها. كل واحدة أمام بيتها، يلغين ويضحكن وهن يمضغن العلكة، كانت تلك عادتهن اليومية. كنت أستغرب صغر حجم عقولهن ومحدودية تفكيرهن. كن متخصصات في إحداث قناة خاصة بالنميمة والغيبة: «فلانة تزوجت، فلانة طلقت، فلانة رجلها يخونها، فلانة باعت الدار، فلانة هاجرت للخارج..». لست أدري كيف كانت والدتي تصغي لهن وتشارك في نشر الخبر؟ لابد أننا عندما نغيب أو نتغيب على المجلس نكون جزءا من دائرة الحوار تلك. أبي منع أمي كليا من مشاركتهن الجلسة المسائية بعد تقاعده من الخدمة العسكرية باكرا، بسبب مرضه، ذلك المرض الذي تسلل إلى بقية أجزاء جسده وأطرافه فأهلكه. مرض السكري كان معينا للمرض على هلاكه، تقاعد بعد عامين من الحياة برمتها وليس فقط العمل. كنت أبلغ من العمر سبع عشرة سنة عندما توفي والدي. أمي أصبحت بسبب التزام والدي الأخير «حاجبة»، أي سيدة لا تخرج خارج عتبة البيت إلا لحاجة أو ضرورة مهمة جدا، وتخرج ملثمة بملابس طويلة تستر كل جسدها ولا تصفه. كنت حينها أدرس بالسلك الثانوي، وجدتني مضطرة لترك المدرسة والخروج للبحث عن عمل. أخي أصغر مني سنا ولا يزال يدرس بالصف الأخير من الابتدائي يحتاج للمال ليتابع تعليمه، ملابس نظيفة، كتب، ومصروف يومي. أمي لن تستطيع فعل شيء أمام نهاية الشهر ومصاريفه. كنا عائلة وحيدة وصغيرة. نزح والدي بنا من شمال المغرب إلى جنوبه، إذ كنا في البداية نقيم مع جدتي بأصيلا، فغادرناها بسبب عمله لنتجه إلى مدينة طانطان، هناك قضى بالخدمة العسكرية سنوات طويلة، عندما مرض تقاعد، وعندما توفي وجدنا نصيبنا من عمله الذي كان يأخذ كل طاقته وجهده ووقته بقشيشا يأتي والدتي كل ثلاثة أشهر، لم يكن يكفي حتى لسد ثمن الكراء المرتفع على جيبنا.