شوف تشوف

الرأيالرئيسيةن- النسوة

الباطوار التركي

حرص قديما على اتباع عادات غذائية صحية، حيث اعتمد الأجداد على مكونات طبيعية من خيرات الأرض الوفيرة. لم يتوان الناس آنذاك عن استعمال زيت الزيتون وشحوم الحيوانات أو استخدام الفحم كوسيلة لطهي الطعام. إذ لحسن حظ السلف أنهم عاشوا في زمن ما قبل علم التغذية الحديث، الذي يخبرك أن السعرات الحرارية في ملعقة زيت الزيتون اليتيمة التي تتجرأ على تناولها كل وجبة إفطار، قد تسبب زيادة وزنك وخنق شرايينك وارتفاع ضغطك وانهيار منزلك وطردك من العمل. لا نغفل أيضا النشاط البدني المكثف كأسلوب حياة إجباري نوعا ما، حيث كان لندرة وسائل المواصلات العامة، مثلا، دور كبير في اعتماد الناس على «الكعبة» لقضاء أغراضهم اليومية، إضافة إلى نوعية العمل اليدوي، كالنجارة والحدادة والزراعة والأنواع المختلفة للتجارة، أعمال كانت تتطلب جهدا جسمانيا مضاعفا وتركيزا ذهنيا عاليا. كان من المنطقي أن يتجه المغاربة إلى أطعمة تزودهم بالطاقة والنشاط لممارسة حياتهم اليومية، حيث من غير الوارد أن يعتمد حداد في «الصفارين»، مثلا، على «كغواصون» وقهوة خالية من الكافيين مع حليب البندق السويسري كوجبة فطور ستمنحه الطاقة والقوة، لدق عشرات الكيلوغرامات من النحاس والحديد. لذا تجد أن المطبخ الفاسي يتوفر على وجبات مشبعة غنية بالسعرات الحرارية، وعالية من حيث القيمة الغذائية، كطبق البيض بالخليع، والعصيدة بالأعشاب، والزميتة بالحبوب الموسمية، وغيرها من الأطباق المغربية التقليدية الصحية. هذه الأخيرة التي إذا حالفك الحظ وبدأت بها نهارك، لن تكون قادرا على فتح دكانك بنشاط وحسب، بل ربما قد تتهور وتقوم بفتح الأندلس مثلا. من الملاحظ، وإلى وقت قريب، أن معالم السمنة المرضية المفرطة كانت نادرة جدا بين صفوف المغاربة. لطالما تمتع المغاربة بلياقة بدنية معقولة، حيث كانت تميل أحجامهم إلى الاعتدال، خصوصا في صفوف النساء اللواتي حرصن على الرضاعة الطبيعية لإنقاص الوزن بعد الوضع، واستعمال المشدات للقضاء على الترهلات، واستهلاك مشروبات طبيعية لتعديل الهرمونات. أتذكر كيف كانت ولازالت كل الجدات في عائلتي نحيفات ممشوقات القوام. فما هو التغيير الذي طرأ فجأة على حياة المغاربة وأسلوب عيشهم، حتى أصبحنا نستنجد بعيادات قص المعدة التركية لمحاربة الشحمة؟  كيف أصبحت المرأة المغربية، التي كانت سابقا مرجعا في تدبير الندرة، من ربة منزل مقتصدة حريصة على تقديم مائدة صحية لأسرتها، إلى سيدة تلهث خلف الإعلانات الترويجية للباطوار التركي؟ حيث شهدنا في الفترة الأخيرة انتشارا مكثفا لعمليات قص المعدة بين صفوف المغاربة رجالا ونساء.  وكما اعتدنا دائما أن نجد وراء كل «تراند» يشكل خطورة أو إساءة ما، شرذمة من المؤثرات اللواتي يروجن لعيادات طبية مجهولة ببلاد الأناضول. حيث يتم اقتياد المغاربة إلى ما يشبه مجازر جماعية، لإجراء تدخلات جراحية دقيقة وخطيرة جدا، دون أدنى ضمانات قانونية تخول للمريض متابعة المؤسسة الطبية في حال وقوع خطأ ما. لقد ساهم أسلوب الحياة الحديثة في انقراض العديد من الأنماط الاجتماعية التقليدية، وأبرزها فن العيش المغربي. هذا الأخير الذي كان يشكل نظاما حياتيا يعتمد على التراتبية الأسرية، مثلا، التي تخول لكل فرد القيام بمهام محددة داخل النسيج الواحد. لقد ساهم تفرغ معظم النساء سابقا للقيام بالأعمال المنزلية في جودة نوعية الطعام، حيث حرصت الأمهات على تقديم وجبات صحية طبيعية خالية من المواد الحافظة. إذ كيف لطفل يفطر بكسرة خبز شعير وصحن زيت زيتون خالص أن يصاب بالسمنة؟ لقد جلب تغير العادات الغذائية للمغاربة العديد من المشاكل الصحية والأمراض المزمنة. كيف لا ونحن نصطف بالعشرات أمام محلات الشوارما، ونصاب بهيستيريا الكلاكسون في ممرات الوجبات السريعة، إذا قامت سيارة ما بالتأخر عن تسلم طلبيتها. لقد استبدلنا الحسوة بالكافي لاتييه، وتأففنا من رغيف القمح، مقابل حرصنا على التقاط صورة انستغرامية للمخبوزات الفرنسية الفاخرة. تجدر الإشارة إلى أن المغاربة يلقون سنويا أطنانا من الخضر والفواكه والأطعمة المتعددة. وهي ممارسات مستهترة وغير مسؤولة في ظل أوضاع اقتصادية وبيئية حرجة. «شبعنا خبز» عبارة تلخص حرفيا الحالة الصحية المتدهورة التي وصلنا إليها في العقود الأخيرة. لقد بلغت بنا العادات الغذائية السيئة إلى اختيار تعريض حياتنا للخطر المحقق، بدل التحلي بالقليل من العزيمة والإرادة للقضاء على داء السمنة وما يرافقها من أمراض السكري والنقرس والضغط وتكيس المبايض الخ. لقد أصبح المغاربة فاحشي الثراء لدرجة تفضيلهم دفع ملايين السنتيمات لأحفاد سنبل آغا للتخلص من «الهبرة»، على أن يختاروا نظام حياة صحيا يعتمد على الرياضة والصيام والتقليل من عمليات الصريط المكثف. إلى متى ستظل المغربيات، على وجه التحديد، أسيرات لتقلبات سوق «لاطاي»؟ لقد وقعت النساء النحيفات، في السنوات الأخيرة، ضحية لموضة التسمين، حيث شكلت هذه النسوة هدفا سهلا لبائعات الأعشاب مجهولة المصدر، التي أصابت العديد من النساء والفتيات بمضاعفات صحية خطيرة كان أبرزها الفشل الكلوي. لنجد أنفسنا اليوم أمام موضة قص المعدة وشفط الأرداف وشد الأفخاذ. أليس من الأفضل لنا أن نقوم بتسمين خلايانا الدماغية وقص عاداتنا الغذائية السيئة، بدل تسمين أرصدة المؤثرات التافهات وقص ضرائب العيادات التركية؟

مقالات ذات صلة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى