شوف تشوف

الرأي

الاغتراب في زمن الآخرين

يستطيع كل المتتبعين لما يجري في الجامعة المغربية، وتحديدا في شعب الفلسفة، أن يلاحظ هيمنة كبيرة للفلسفة المعاصرة، دروسا وبحوثا، في حين أن الحيز الذي يعطى للفلسفتين الحديثة والوسطوية ضيق جدا. يزداد المرء حيرة عندما يجد أساتذة أنجزوا أطروحاتهم الجامعية حول فلاسفة أو إشكالات أو مصادر يونانية أو وسطوية أو حديثة، لكن الدروس التي يلقونها أو البحوث التي يشرفون عليها تنتمي كلها للفلسفة المعاصرة. ربما هي رغبتهم بمسايرة النسق الفلسفي الغربي، ليس فقط على مستوى الموضوعات والإشكالات، ولكن أساسا على مستوى «الكليشيهات» التي يسم بها الفلاسفة الغربيون المعاصرون فلاسفة أمثال أفلاطون وأرسطو وديكارت وكانط وهيغل. لذلك هناك الكثير من الطلبة الباحثين وجدوا أنفسهم مضطرين لركوب هذه الصيحات، ليحصلوا على «مشرف».
المسألة، في هذه الحدود، يمكن القول إنها «عادية» إذا نظرنا إليها من المنظور المشار إليه أعلاه، والمتمثل في «الرغبة في مسايرة النسق الغربي»، لكن الأمر يصبح مقلقا إذا نظرنا في عمق التبريرات التي يستند إليها بعض أساتذة الفلسفة بجامعاتنا، في رفضهم تدريس نصوص الفلاسفة من سقراط وأفلاطون إلى هيغل وماركس، أو تأطير بحوث جامعية حقيقية عن هؤلاء، ذلك أن تدريس نتشه وهايدغر وديريدا ودولوز وفوكو، بشكل مكثف في سلك الإجازة مثلا، في مقابل إهمال تدريس نصوص ديكارت واسبينوزا وليبنتز وكانط وهيغل، دون أن نتحدث هنا طبعا عن التهميش الكبير الذي تلقاه الفلسفة الوسطوية، هو أمر خطير تكون له آثار وخيمة على التكوين الفلسفي للطلبة، ومن ثم إضعاف مساهمتهم في الفعل الثقافي لوطنهم، ولكن لأن هذا يسبب عزلا خطيرا للجامعة عن مجتمعها، والسؤال الذي يطرح، أيهما سيفيد ثقافتنا المخترقة حتى النخاع بمظاهر التخلف والأسطورة والبداوة وغياب السلوك المدني؟ هل تدريس فلسفة الأنوار أم تدريس فلسفة ما بعد الحداثة؟ ثم ماذا يعرف طلبتنا اليوم عن محاورة الجمهورية بعيدا عن التقزيم الذي يتم إحداثه في الحديث عن أسطورة الكهف؟ ماذا يعرفون عن كتاب «التأملات» لديكارت بعيدا عن التقزيم الذي يتعرض له هذا الفيلسوف عندما يتم اختصاره في «الكوجيطو»؟ ماذا يعرفون أيضا عن اسبينوزا وكانط وهيغل بعيدا عن المختصرات السيئة التي أنجزها عبد الرحمان بدوي؟ فعندما تجد طالبا حاصلا على الماستر في الفلسفة يرتكب أخطاء لغوية قاتلة في لغة الضاد، عندها ستعرف أي خطيئة هذه تم ارتكابها في حقه وفي حق هذه الثقافة، لكونه ببساطة لم يقرأ الكندي والفارابي وابن سينا والغزالي والتوحيدي وابن رشد.
صحيح أن الفلسفة لم تكن قط سجينة نظرة نفعية مباشرة، من قبيل التخصصات الهجينة التي ابتلى بها الله جامعاتنا باسم شعار «ربط الجامعة بالمحيط السوسيواقتصادي»، ولكن لا يمكننا أيضا أن ننفي أن للفلسفة دورا مركزيا في تنوير الثقافة، أن هذا الدور لا يمكن أن تتوفر شروطه إذا لم نَتخلَّ عن «كليشهيات» ثقافية، من قبيل أن المستقبل هو للذكاء الاصطناعي وفيزيولوجيا الأعصاب، وأن قراءة مسكويه والتوحيدي وابن طفيل مجرد مضيعة للوقت، كما يحب كثيرون أن يقولوا علانية لطلبتهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى