شوف تشوف

الرأي

الاجتياح المغولي عام 1258م

كيف انهارت الحضارة الإسلامية؟ كيف سقط العالم الإسلامي؟ كيف غاب عن التاريخ وفقد القدرة على تقرير المصير؟ كيف لم يعد يشترك في صناعة الأحداث بل لم يعد يدري ماذا يحدث له؟ فأصبح مصنوعاً ولم يعد صانعاً، وأصبح يُخطط له وينفذ فيه، وهو لا يدري ماذا يحدث!! كيف قفز الأوربيون إلى دفة قيادة التاريخ وصناعته؟ متى حدث هذا؟ هل له بدايات أو مؤشرات؟ وبكلمة مختصرة، هل يخضع المسلمون لقانون الله كما يحدث مع كل الحضارات والأمم أم هم استثناء عن القاعدة وشذوذ على القانون وأبناء الله وأحباؤه المدللَّون!!
(فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق!!) أما أن العالم الإسلامي سقط وتضرج بدمه في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي، فلا أوضح فيه من استحضار الذاكرة الجماعية المروعة عن سقوط بغداد كعبة العلوم عام 1258م الذي تلا سقوط إشبيلية عام 1248م بعد عقد من الزمن لا يزيد، وبذا سقط جناحا العالم الإسلامي. الغربي تحت الاندفاع الإسباني في حروب الاسترداد، والشرقي تحت الزحف المغولي المرعب.
ولنذهب إلى أسوار بغداد لننظر ما حدث في شتاء عام 1258م: في الرابع من صفر من عام 656 هـ الموافق 13 فبراير من عام 1258م بعد أن طوقت بغداد من كل جانب ولم يبق أمام الخليفة العباسي إلا الاستسلام، ذهب لمقابلة عاهل المغول خارج بغداد.
دخل الخليفة العباسي مجلس هولاكو مرتاعاً، فابتسم الأخير بخبث ثم قال له: أنت المضيف ونحن الضيوف فانظر بماذا تكرم ضيوفك، فهرع الخليفة إلى دار الخلافة فأحضر الدنانير والخلع والجياد، فنظر هولاكو بسخرية وقال: هذه ليست لنا بل هي لعبيدنا!! ما نريده الدفائن . فدلهم الخليفة على بركة من الذهب الخالص في القصر الملكي (وكان بإمكانه تجنيد مئات الآلاف بها!!) فحفروا البلاط والرخام وأخذوها، ثم أخذوا بعدها (روح) الخليفة بوضعه في كيس وإزهاق روحه بالرفس كي لا يندلق دمه على الأرض فيؤخذ بثأره بزعمهم بموجب عقائد المغول، ثم قتلوا أولاد الخليفة الكبار أحمد وعبد الرحمن، ثم استاقوا الصغير مبارك وأخواته الثلاث خديجة ومريم وفاطمة إلى الأسر، ليوزعوا في حصص أمراء المغول من أسرى الحرب. وكانت بغداد كعبة العلوم آنذاك قد استبيحت وقتل من أهلها في أقل التقديرات ثمانمائة ألف، في ظل استباحة للمدينة دامت أربعين يوماً (راجع البداية والنهاية لابن كثير المجلد 13 – 14 ص 200 عن عام 656هـ).
يقول الحافظ ابن كثير في كتابه (البداية والنهاية) الذي يبحث في التاريخ (نفس المصدر ص 202):
(ومالوا على البلد فقتلوا جميع من قدروا عليه من الرجال والنساء والولدان والمشايخ والكهول والشبان، ودخل كثير من الناس في الآبار وأماكن الحشوش، وقنى الوسخ، وكمنوا كذلك أياماً لا يظهرون، وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات ويغلقون عليهم الأبواب، فتفتحها التتار إما بالكسر وإما بالنار، ثم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة فيقتلونهم بالأسطحة، حتى تجري الميازيب من الدماء في الأزقة… وقد اختلف الناس في كمية من قتل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة، فقيل ثمانمائة ألف وقيل ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل بلغ القتلى ألفي ألف نفس (رقم المليون لم يكن معروفاً)… وكان الرجل يستدعى به من دار الخلافة من بني العباس فيخرج بأولاده ونسائه فُيذهب به إلى مقبرة الخلال تجاه المنظرة فيذبح كما تذبح الشاة، ويؤسر من يختارون من بناته وجواريه. وقُتل الخطباء والأئمة وحملة القرآن، وتعطلت المساجد والجماعات والجمعات مدة شهور ببغداد. ولما انقضى الأمر المقدر وانقضت الأربعون يوماً، بقيت بغداد خاوية على عروشها ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنهم التلول، وقد سقط عليهم المطر فتغيرت صورهم، وأنتن من جيفهم البلد، وتغير الهواء فحصل بسببه الوباء الشديد حتى تعدى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلق كثير من تغير الجو وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاء والوباء والفناء والطعن والطاعون فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ولما نودي ببغداد بالأمان خرج من تحت الأرض من كان بالمطامير والقنى والمقابر كأنهم الموتى إذا نبشوا من قبورهم، وقد أنكر بعضهم بعضاً فلا يعرف الوالد ولده ولا الأخ أخاه، وأخذهم الوباء الشديد فتفانوا وتلاحقوا بمن سبقهم من القتلى واجتمعوا تحت الثرى بأمر الذي يعلم السر وأخفى، الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى).
كيف يمكن أن يفهم أو يفسر حدثٌ في مثل هذه الضخامة، يفقأ العين، عن انهيار مريع للحضارة الإسلامية، في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي.
عندما كان الرسول (ص) يحدث ابن لبيد عن زمن الانهيار المرتبط بــ (ذهاب العلم) لم يكن باستطاعة الصحابي (ر) أن يستوعب مثل هذه الظاهرة فكان يقول: وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن وسوف نُقرئ أبناءنا القرآن، وأبناؤنا سوف يُقرئون أبناءهم القرآن!! لم يقل له رسول الله (ص) أتكذبني وأنا رسول الله كما لم يقرأ له آية من القرآن، بل أخذ بيده إلى الواقع، ليريه واقعة يومية مكررة عن أقوامٍ آخرين انطبق عليهم القانون الإلهي: (أوليس اليهود والنصارى بأيديهم التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء). (ذكرالحديث ابن كثير في تفسيره وصححه (تفسير ابن كثير _ المجلد الثاني _ سورة المائدة _ الآية 65-66 ص77 عند تفسير الآية: ولو أن أهل الكتاب آمنوا واتقوا لكفرنا عنهم سيآتهم .. الخ . وقد رواه الإمام أحمد ابن حنبل متصلاً موصولاً فقال حدثنا وكيع حدثنا الأعمش عن سالم بن أبي الجعد عن زياد بن لبيد أنه قال ذكر النبي (ص) شيئاً فقال (وذاك عند ذهاب العلم) فقال قلنا يارسول الله: وكيف يذهب العلم ونحن نقرأ القرآن ونقرئه أبناءنا وأبناؤنا يقرئونه أبناءهم إلى يوم القيامة. فقال: ثكلتك أمك يابن لبيد إن كنت لأراك أفقه رجل بالمدينة، أوليس هذه اليهود والنصارى يقرؤون التوراة والإنجيل ولا ينتفعون مما فيهما بشيء . هكذا رواه ابن ماجة عن أبي بكر بن أبي شيبة عن وكيع به نحوه وهذا إسناد صحيح).
هذا هو القانون النفسي الاجتماعي الذي تتردى فيه الجماعات الإنسانية والذي يوصلها إلى الوضع الذي لا تستفيد فيه مما عندها، ولو كانت كنوزاً رائعة وذخائر نفيسة ومجلدات مثيرة وعلم لا ينتهي.
ويذكر القرآن نموذجاً عجيبا للحمار الذي يحمل على ظهره أسفاراً من الكتب الرائعة، والمجلدات الثمينة، ولكن هل بإمكان الحمار أن يقرأ سطراً واحدا!!
والمثل جاء بالأصل عن اليهود، ولكن لا يخرج اليهود عن كونهم بشرا انطبق عليهم القانون الإلهي، ويقبل أن يتكرر في أوساط إنسانية أخرى.
(مثل الذين حُمِّلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفاراً). (سورة الجمعة الآية 5).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى