الإنسان المريض
منذ القديم شكل المرض أزمة للإنسان وتحديا لا مهرب منه وقدرا يطوقنا، وكان ساحر القرية يحاول طرد الأرواح الشريرة على أنها سبب للمرض، أو استخراج الجن من رأس المريض، أو جلد الذات بسبب الخطايا، أو لعله تعكر مزاج المريخ مارس، إله الغضب والحرب.
كان معظم الناس يفكرون في المرض خارج جسم الإنسان كمن يريد حفر بئر في قمة جبل، أو توقع المطر في صحراء نيفادا. واستمر الإنسان يعاني من المرض، حتى تأسس علم الطب بثلاث أقدام من المنهجية وعدم السرية والتطبيق على الجميع، فيمكن تخدير أفعى الجلاجل والعصفور الدوري والإنسان، وانتهاء بالسلحفاة والنمر بأنياب والفيل العظيم.
المرض البدني لعله سهل واضح، أما الأمراض الاجتماعية فلا ترى، وما زلت أتذكر زيارتي إلى عائلة سورية في مدينة بريدة في منطقة القصيم بالسعودية، حين هتفت بي ربة المنزل: عندي خبر سار لك. قلت: ما هو؟ قالت: بإمكانك الإدلاء بصوتك في الانتخابات الرئاسية السورية، بدون الذهاب إلى السفارة بإرسال فاكس. وكانت الانتخابات المزورة قائمة على قدم وساق. قلت: حسنا وهل فعلتم أنتم ذلك؟ أجابت مع ابتسامة عريضة: نعم.. جلست أنا وزوجي وكتبنا هذه الورقة، ثم دفعت إلي بورقة كبيرة يعلوها خط جميل معتنى به. كان فيها: في مثل هذا اليوم الأغر وقد أشرقت الشمس واخضر الشجر وغردت الطيور وفاحت العطور. وفي نهاية هذه الديباجة المقرفة من قرون التخلف جاء: ونحن نبايعك بالروح والدم أيها الرفيق! التفت إلى الزوجة وسألتها: بالطبع وأنتم ترسلون هذه الورقة تعلمون أنكم تكذبون؟ أجابت بعفوية وبشيء من الاستحياء: نعم. تابعت بسؤال آخر: ولكنكم في قلوبكم تلعنون؟ ابتلعت المرأة ريقها وقالت بتردد: نعم. قلت لها: أليس بالإمكان أن لا تكذبوا ولا تلعنوا؟ صاح بها زوجها: ويلك إنها غلطتك يا حواء، فلقد أغريتني أن آكل من الشجرة المحرمة؟ ولكن كلا منهما لم يفعل ما فعل آدم وحواء، فيقولا بخشوع: ربنا إننا ظلمنا أنفسنا.
ولي صديق ما جاءني مرة إلا تحدث عن الأوضاع السيئة، فلما قرأت عليه تحليلا ينتقد الأوضاع أصيب بالرعب وأحس أنه يشارك في الإثم، فقد يسأل عما سمع ولم يبلغ عنه، فعيون الجان من رجالات المخابرات تسترق السمع ولو كانت في السماء السابعة.
واجتمعت يوما بالشحرور، المفكر السوري صاحب كتاب «القرآن والكتاب»، إذ كان الشباب يصغون إليه بخشوع وهم يسجلون، فكان يوقفهم المرة بعد الأخرى، وهو يقول: الآن سأتكلم كلاما خطيرا فلا تسجلوا.. وإذا بالكلام سجع الشعراء وزمع الكهان.
هذه القصص تروي مشكلة الإنسان المريض الذي يصوت بنسبة 99 في المائة، كما يجري في كل زاوية من العالم الإسلامي من باكستان إلى تونس والجزائر. ويقف الإنسان حائرا يفكر في طبيعة المرض الثقافي، الذي ينتج مثل هذا الإنسان المشوه، كما يحدث في الأخطاء الجنينية. ففي الوقت الذي يتقدم العالم، نمشي نحن إلى الخلف في أوطان تمشي على رأسها، بدون أن يشعر المواطن بالدوار. كان الناس قديما يحارون في الطاعون عندما يضرب، فلا يعرف الناس كيف جاء، ولا كيف ذهب؟ وكان أحدهم يبكي ويُقَبلُ المريض، فيأخذ العدوى ويلحقه إلى القبر، بعد أيام. وفي عام 1918 م انفجرت الأنفلونزا في أمريكا، فقضت على 550 ألف نسمة، ومات في الكرة الأرضية من العدوى 30 مليون إنسان. ولم تكن الفيروسات معروفة يومها، بسبب عدم وجود المجهر الإلكتروني. كذلك الحال في الأوبئة الاجتماعية التي تفتك بالعالم العربي، وتتحول إلى أمراض متوطنة. فهذا المرض يتواتر في حلقة جدلية معيبة بين وسط مهيأ وجراثيم فتاكة تهدم الجسم بتسارع لتدخله في اختلاطات جديدة، فالنزف الشديد يقود إلى صدمة الكلية، فيكون المريض في ورطة فيصبح في اثنتين. وعندما يمرض الإنسان يصبح مؤهبا لأمراض جديدة، وكما جاء في محكم التنزيل: في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا. وهو مرض لا علاقة له بالسياسة، وإن كان يفسد السياسة. فأن يتأخر الإنسان عن موعده، أو لا يتقن عمله، أو يرمي بالقاذورات على الأرض مع وجود الحاوية على بعد أمتار، أو يملأ صناديق الفاكهة حشفا وسوء كيلة من الأعلى الجيد ومن الأسفل السيئ الفاسد، يعني أن هناك مرضا مستفحلا يضرب في أرض عطنة تفوح برائحة كريهة. وقبل خمسين سنة لم تكن ظاهرة الرشوة تطفو على السطح، واليوم وفي مساحة لا يستهان بها من العالم العربي، لا يمكن إنجاز أي شيء بدون رشوة وبشكل مفضوح، فقد ضاع الحياء ومات المواطن، وفقد حس الدفاع عن وطن يستباح من مفرق رأسه حتى أخمص قدميه. ولا يعني هذا أن كندا أو ألمانيا لا توجد فيها رشوة، بل هي أمراض وبائية تكافح بسرعة بلقاحات من الوعي، ومن خلال صحافة حرة، مثل مكافحة الحمى الشوكية. أما عندنا فهي أمراض فظيعة تعس في مفاصل جسد انهار فيه الجهاز المناعي، وهذه رؤية تشاؤمية، ولكن كما يقول الفيلسوف نيتشه: إن التشاؤم نذير الانحطاط كما إن التفاؤل علامة السطحية في التفكير وقصر النظر، أما التفاؤل الحزين أو التفاؤل في المأساة، فهو صفة الرجل القوي الذي ينشد شدة التجربة واتساع مداها. وهو الذي دفعه إلى إنتاج كتابه «مولد المأساة من رحم الموسيقى». هذا الإنسان المريض هو الذي شكل الاستعداد الخفي لوقوع مأساة حرب يونيو، والمرض لم يرتفع، بل زاد استفحالا.
خالص جلبي