الأخلاق في وجه الفوضى الإباحية
علي محمد فخرو
من المؤكد أن الإباحية لها أسباب كثيرة نابعة من الواقع، فالسياسة الفاسدة، والصراعات والحروب الأهلية العبثية، والاقتصاد غير العادل، والإعلام ومختلف التعبيرات الأدبية والفنية غير الملتزمة وغير المسؤولة، تلعب جميعها أدوارا في خلق الظروف وإضعاف النفوس، لانتعاش شتى صنوف الممارسات الإباحية الشخصية والمجتمعية. لكننا سنركز على إشكالية، نعتبر إضعافها الممنهج وتهميشها في الحياة العامة، أحد أهم الأسباب لمحنة الإباحية تلك، ونعني بها الإشكالية الأخلاقية، بكل أنواعها ومصادرها.
أهمية الأخلاق في حياة البشر تبرز في المكانة الكبيرة التي أعطيت لموضوع قيم ومكانة وممارسة وتشوه وانفلات الأخلاق، وذلك عبر قرون من تاريخ الإنسانية، سواء من خلال المناقشات الفلسفية الكثيرة المتباينة في مدارسها، أو من خلال تفاعل الموضوع الأخلاقي مع شتى الأوامر والنواهي والتشريعات الدينية، أو من خلال تشريع القوانين المجتمعية الضابطة لها، في حقول السياسة والاقتصاد وممارسة المهن وغيرها.
والنتيجة وجود أنواع من التسميات من مثل: أخلاقيات التنمية، أخلاقيات المستهلكين، أخلاقيات المهنة، أخلاقيات الأعمال، أخلاقيات جنسية، أخلاقيات الرعاية، أخلاقيات الفلسفة السياسية، الأخلاق الإسلامية، أخلاق الأوامر الإلهية، الأخلاق الإيكولوجية البيئية، أخلاقيات الفنون والآداب العامة. ومن الواضح أنه كلما زادت ساحات النشاطات الإنسانية، اتسعت الإضافات والأنواع. من هنا ظهور علم عصري جديد هو «علم الإثيقا(Ethics) »، أي علم أو فلسفة الأخلاق الفاضلة، المعلي للفضائل والمنتقد للرذائل، المدعي بأنه نتيجة تطورات بيولوجية من جهة، وتطورات ثقافية حضارية من جهة أخرى. وهو علم أصبح يدرس في الجامعات والمدارس العليا، كفرع من فروع علم الفلسفة. نقول ذلك على الرغم من أن «الإثيقا» والأخلاق مصطلحان يستخدمان غالبا كمترادفين يناديان بالمبادئ والأعراف نفسها. في الحال يطرح السؤال الآتي نفسه: ما الذي مكن بعض قوى الحضارة الحديثة من تشويه وتهميش موضوع قديم قدم الوجود البشري، متغلغل في كل مناحي نشاطات الإنسان، بالشكل المريع الذي يسمح بوجود وانتشار الوباءات الإباحية؟
لقد لوحظ منذ القدم أن انتشار الرذائل وانكماش وضمور الفضائل، أدى دوما إلى زوال المجتمعات والأمم والحضارات، وعِبر التاريخ في هذا المجال لا تعد ولا تحصى. ذلك أن الأخلاق مرتبطة وجوديا بنقاء الفطرة وتوازن الشخصية الإنسانية، فإذا همشت دخلت المجتمعات عالم الحيوانية بكل نقائصها ومشاكلها. ولعل ذلك يفسر الارتباط الوثيق بين الأخلاق والدين في شكل أوامر إلهية، أو على شكل تحريم لهذه الرذيلة أو تلك، أو تقوية للجوانب الروحية، ويفسر حماس بعض الفلاسفة للقول إن إنسانية الإنسان لا تتحقق بعقلانيته المجردة لوحدها، وإنما تحتاج إلى تفعيل قواه الأخلاقية، وعلى رأسها تفعيل الفضائل الكبرى في حياته الخاصة والعامة من خلال مرتكزات دينية وفلسفية وأشكال من التعبيرات الرمزية.
إن محاولات خلق حالة صدامية بين الحرية الفردية والمجتمعية والأخلاق، بين تطورات العلم والأخلاق، بين حاجات الجسد الطبيعية المنضبطة والأخلاق، وغداً بين إملاءات الإنسان الآلي والذكاء الاصطناعي والأخلاق، أوجدت شعورا كاذبا بأن الإنسان هو سيد الكون، وبالتالي حقه في أن يقلب الأخلاق إلى أن تكون حالة نفعية وحسية مستقلة عن كل ضوابط الوجود الإنساني وعن بقية الكون.