محمد السعيد إدريس
كشف الاستقطاب الحاد في أوساط الشعب التركي الذي كان أبرز معالم الجولة الانتخابية الأخيرة البرلمانية والرئاسية أن هذه الانتخابات لم تكن مجرد صراع على السلطة فحسب، بل كانت في الأصل صراعا مزدوجا حول الهوية التركية أو البوصلة التي تحكم السياسة الخارجية التركية في بعديها الإقليمي والدولي، وحول رؤية تركيا المستقبل. وهنا كان شعار «التغيير» الذي رفعته المعارضة وتجاوبت معه قطاعات واسعة من الشعب التركي، وخاصة الشباب، له مدلوله المباشر في أمرين: أحدهما أنها ظاهرة «رجب طيب أردوغان السياسية» الذي حكم تركيا لمدة 21 عاما، والآخر الخيارات السياسية لأردوغان داخليا بتكريس نظام الحكم الرئاسي، فيما تسعى المعارضة للعودة إلى نظام الحكم البرلماني لجعل الديمقراطية والحريات معالم أساسية لمرحلة ما بعد حكم أردوغان.
أردوغان وحملته الانتخابية رفعا أيضا شعار «التغيير»، ولكن بمدلول مختلف تماما؛ هو مواصلة مسيرة التحديث والتطوير الاقتصادية في الداخل لمواجهة التحديات المعيشية، وارتفاع معدلات التضخم، والتراجع الحاد في العملة التركية، لكن التحديث والتطوير الأهم يركز على منظومة العلاقات التركية الإقليمية والدولية، وبالتحديد المزيد من الانفتاح على القوى الإقليمية، والتقارب مع دول الجوار، وهنا تبرز العلاقات مع مصر، وليبيا، وسوريا، والسعودية، والإمارات بوصفها معالم مهمة للتحول، وفي الوقت ذاته المزيد من التفاعل مع المعادلة الرباعية (تركيا- روسيا – إيران
– سوريا)، والمزيد من توثيق العلاقات مع رياح التغيير في النظام العالمي التي تقودها الصين وروسيا على حساب العلاقات مع الغرب، سواء كان الغرب الأمريكي أو الغرب الأوروبي الذي كشف عن عداء شديد لشخص أردوغان وخياراته السياسية، خاصة الانحياز إلى روسيا، ورفض المشاركة في مسيرة العقوبات ضدها، إضافة إلى رفض ضم السويد إلى حلف شمال الأطلسي.
إفصاح وزير الخارجية التركي السابق، مولود جاويش أوغلو، في ذروة العملية الانتخابية عن رفض تركيا طلبا أمريكيا يقضي بنقل منظومة صواريخ «إس 400» التي حصلت عليها من روسيا إلى أوكرانيا، كان معبرا عن واقع العلاقات بين البلدين، حيث قال: «لو أظهرت أنقرة المرونة والموافقة لم تكن لتواجه المشكلات الحالية مع واشنطن». واعتبر أن مثل هذا الطلب يمس السيادة التركية، وتساءل: «أين سيصبح استقلالنا في تلك الحالة؟».
العداء الذي أظهرته أوروبا لأردوغان وانحيازها الصريح إلى المعارضة لم يكن أقل وطأة، على نحو ما كشفت عنه صحيفة «لوموند» الفرنسية على لسان مارك بياريني، السفير الأسبق في أنقرة، والباحث في معهد «كارينجي- أوروبا»، وقوله إن «انتصار أردوغان سيعني انتصارا لبوتين»، وإن هزيمته ستكون «هدية» للغربيين، وإن «التحدي الكبير بالنسبة إلى الأوروبيين والغربيين بشكل عام هو نوعية علاقة تركيا المستقبلية مع حلف الأطلسي، وذلك على ضوء علاقتها القائمة مع روسيا»؛ لذلك لم يكن غريبا أن يحسم إبراهيم قالين، المتحدث باسم رئاسة الجمهورية، الذي اختاره الرئيس أردوغان رئيسا لجهاز الاستخبارات بديلا لرئيسها هاكان فيدان الذي أصبح وزيرا للخارجية، مستقبل العلاقة مع الولايات المتحدة ضمن مسار «التغيير والتطوير» بقوله إن الولايات المتحدة «أحد الفاعلين المهمين الذين تربطنا بهم علاقات، ومن هذا المنظور نضع علاقاتنا معها، وكذلك مع روسيا، والصين، ودول الاتحاد الأوروبي في الاعتبار». لم يقل قالين إن الولايات المتحدة هي القوة العظمى، ولكنه أقر بأنها شريك في قيادة العالم مع روسيا، والصين، والاتحاد الأوروبي.
مسار التغيير هذا وصفه أردوغان بـ«قرن تركيا» ضمن معادلة تطويرية أوسع للمشروع التركي، ضمن معادلته الاستراتيجية لـ«العثمانية الجديدة».
الحديث عن «قرن تركيا» كان محور تركيز كلمة أردوغان، عقب أدائه اليمين الدستورية في البرلمان، يوم السبت قبل الماضي، عندما تعهد بأن يجعل تركيا «النجم الصاعد» في المنطقة، وأن يتبنى سياسة تقوم على التقارب مع مختلف الدوائر، مشيرا إلى أمرين: أحدهما القيام بتحليل نتائج الانتخابات بشكل جيد للغاية، قائلا: «نعيش اختبار مصير بالنسبة إلى بلدنا». والآخر التعهد باستحداث دستور مدني جديد «يُسقِط عهد الوصاية والقومية الإلزامية وعروض الحماية»، وقال: «سنُعزز ديمقراطيتنا بدستور جديد حر ومدني وشامل، ونتحرر من الدستور الحالي الذي كان ثمرة انقلاب عسكري».
«قرن تركيا» سيكون بهذا المعنى هو الاختبار الصعب لولاية أردوغان الثالثة، أو بوضوح أكثر لـ«عهد أردوغان». لكن التحدي الأصعب هو مدى قدرة أردوغان على تأمين مستقبل تركيا مع الأردوغانية، بعد انقضاء السنوات الخمس الأخيرة المقبلة.
نافذة:
«قرن تركيا» سيكون بهذا المعنى هو الاختبار الصعب لولاية أردوغان الثالثة أو بوضوح أكثر لـ«عهد أردوغان» لكن التحدي الأصعب هو مدى قدرة أردوغان على تأمين مستقبل تركيا