إياب أطول من ذهاب
سعيد الباز
قد لا يختلف اثنان على أن المدرسة المغربية تعيش وضعا صعبا، أو أنها ترقد الآن في غرفة الإنعاش منذ مدة ليست باليسيرة. ترقد بين يدي العديد من المعالجين الذين اختلفوا في وصفاتهم العجيبة والمتناقضة أحيانا، بعضهم يوصي بإلحاح شديد باستجلاب نماذج محددة من مناهج التعليم المستوردة، والبعض الآخر على طريقة العشابين يقدم خلطة سحرية من هنا وهناك علها تعود إلى سابق عهدها. لكن ما غاب عنهم أن هذه المدرسة بالتحديد مدرسة مغربية لا ينبغي لها إلا أن تعبر عن الشخصية المغربية والواقع المغربي وحاجياته، والأهم من كل شيء طموحه ومستقبله.
إن أهم الإشكالات التي تتعرض لها المدرسة المغربية هو الخوض في النقاش العقيم حول مسألة لغة التعليم، حيث إن مجرد إثارة هذا الموضوع خارج السياق التاريخي للمدرسة المغربية يجعلنا لا ننتبه إلى أن التعدد اللغوي كان موجودا في السابق، وأن تدريس العلوم بلغة أجنبية كان هو الآخر سائدا ومهيمنا على نطاق واسع، ولم تتضرر منه اللغة العربية، بل كان لها شأن بليغ لا يمكن لأي منصف التشكيك في ذلك. الخطر الداهم الآن الذي تتعرض له اللغة العربية هو الدارجة، التي بدأت تكتسح الفضاء العمومي من إعلام وإشهار فضلا عن لغة التدريس نفسها، ما سيفضي حتما إلى حرماننا من لغة عالمة قادرة على القيام بدور الوساطة بيننا وبين المعرفة عموما.
في مرحلة سابقة كانت الدارجة تسير على خطى اللغة الفصيحة تستعير منها المفردات والعبارات وتحاكيها على مستوى التركيب، حتى تتمكن من التعبير عن موضوعات ذات طبيعة فكرية مجردة. اليوم العكس هو ما يحدث، ذلك أن اللغة العربية في مستواها الفصيح تسعى جاهدة ليس إلى تضمين عبارات دارجة، بل تنخرط في محاكاتها على مستوى التركيب والصوتي أحيانا. الأغرب من ذلك أن تجد اللغة العربية ما زالت صامدة في مجال لا يخطر على بال هو المجال الرياضي وكرة القدم تحديدا، رغم محاولة بعض الواصفين الرياضيين العودة إلى مفردات فرنسية سبق تعريبها وحصل لها نوع من الاستقرار النسبي على مستوى التداول.
إن اللغة الأجنبية لم تكن مشكلة حقيقية، المشكلة تكمن في الاندثار الذي عرفه حضورها القوي وتعددها الذي كانت تتمتع به داخل المدرسة المغربية من اللغة الإنجليزية بالدرجة الأولى والإسبانية والألمانية، دون الحديث عن الفرنسية. هذا التعدد اللغوي كان متوافقا مع تاريخ المغرب الذي عايش العديد من اللغات وتفاعل معها تأثرا وتأثيرا من جهة، ومع الميل الطبيعي لدى الفرد المغربي إلى تعلم اللغات من جهة أخرى، بحكم التعدد اللغوي الغني في المغرب من أمازيغية بلهجاتها المختلفة وعربية بلهجاتها العديدة، ما سهل عليه الانتقال من لغة إلى أخرى، رغم اختلاف نظامها التركيبي والصوتي.
إن ما تحتاج إليه المدرسة المغربية أكثر من أي وقت مضى هو تعزيز هذا التعدد اللغوي، الذي يعد مفتاحا ضروريا إلى الولوج إلى العالم والانفتاح على المعرفة من خلال بوابتها الأساسية اللغة الإنجليزية، دون إهمال اللغة الإسبانية لما لها من انتشار متواصل، وبقية اللغات الأخرى التي لا غنى عنها اليوم.
المشكلة الأخرى تكمن في كون المدرسة المغربية لم تعد فضاء جذابا لتلميذنا، يسهم في تفتح شخصيته وبنائها بناء سليما في مجال الذوق الفني والجمالي والفكري والمعرفي واكتساب المهارات الضرورية، وصارت مجرد اجترار كمي لمقررات جافة بعيدة عن التلميذ لا تتطلب منه سوى استخدام ذاكرته بمعزل عن الفهم والإدراك فضلا عن التحليل أو النقد. فكيف تعود مدرستنا المغربية إلى سابق عهدها؟ ربما كان ذلك صعبا لكنه غير مستحيل، فطريق الإياب، كما قال الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا، دائما أطول من الذهاب.