اللغة ليست سبب النفور المتزايد من متابعة الدراسة بكليات العلوم
محمد طويل*
* مفتش تربوي للتعليم الثانوي/ باحث في قضايا التربية والتكوين
بالرغم مما تتطلبه من انخراط وتركيز وقدرات عليا من التفكير من قبل المتعلمين من أجل استيعاب وفهم وتملك معارفها الأساسية البسيطة ومفاهيمها المعقدة وقوانينها ونماذجها المتطورة التي تظل ملازمة للناس مهما كانت اختياراتهم المستقبلية سواء كانت علمية أو أدبية، فما الساعة والميزان والسيارة والطائرة والقطار والباخرة والهاتف والثلاجة والمكيف والمصباح والكثير من أجهزة القياس وتشخيص الأمراض والكشف عن الأورام، إلا منتجات علم الفيزياء وتجسيد فعلي لبعض قوانينها، ولا يمكن لأي كان أن لا يتعامل يوميا برغبة منه أو مرغما مع واحد من هذه المنتجات، وما الغيوم والرياح والأمطار والظلال وتعاقب الأوقات والفصول والليل والنهار والحرارة والضغط والضوء والإشعاع والكسوف والخسوف وغيرها إلا ظواهر من صلب اهتمام الفيزياء ولن تفهم خارج قوانينها وبدون فهمها تظل العتمة هي المتسيدة. وما قوانين الحركة والموائع والضوء والكهرباء والموجات بكل أنواعها والطاقة وغيرها كثير، إلا مفاهيم ونماذج لم يكن للكثير من المنتجات التقنية والصناعية التي تغرق فيها البيوت والأسواق أن ترى النور بدونها.
بالرغم من كل هذا التميز والتفرد والفائدة فإنها ظلت من بين المواد التي لا تحظى بالتقدير الذي تستحق ضمن مكونات المنهاج الدراسي، فالتلاميذ طيلة مسارهم الدراسي الابتدائي لا يستفيدون من أكثر من ساعتين أسبوعيتين من أصل ثلاثين ساعة تحت مسمى النشاط العلمي فيه بعض من المعارف الأولية للفيزياء في حجرات دراسية للتعليم العام وليس أكثر منهما بالسلك الإعدادي، أحيانا دون توفر شروط التمدرس التي تقتضيها طبيعة المادة بالرغم من حجم ونوعية المفاهيم العلمية الأساسية والمهارات النظرية والتجريبية التي يتضمنها برنامجها، ويختتمون هذا السلك باجتياز امتحان موحد جهوي من ساعة واحدة تحتسب فيه المادة بمعامل واحد وبنسبة تمثيلية ضئيلة جدا مقارنة بمواد أخرى.
أليس هذا كافيا لأن يكون مستوى التحصيل بخصوص هذه المادة الدراسية متواضعا وتأثيرها في الشهادة التي يتم نعتها بالعلمية ضئيل جدا؟ أليست مادة الفيزياء مميزة للشعب العلمية والتقنية وتستحق أكثر من امتحان واحد نظري يأخذ بعين الاعتبار طابعها التجريبي المميز بما يخدم أهداف التعليم التجريبي الكثيرة كما عددها الباحث Alain. Dimond في فئات تجاوز عددها 525 هدفا تغطي مختلف مجالات التعلم المعرفية والمهارية والمرتبطة بالتخطيط والإنجاز والتقييم ووضع الخلاصات وبالمواقف، وهو ما يجعلها تلامس مختلف جوانب الشخصية المعرفية والحس حركية والوجدانية؟ لن نستغرب، في ظل هذا المعطى الأساسي إلى جانب عوامل أخرى لا تقل أهمية، إذا ما لاحظنا ذلك الإقبال الكبير للطلبة الحاصلين على شواهد بكالوريا علمية على التسجيل في الشعب الأدبية والقانونية بكليات الآداب والعلوم الإنسانية والقانونية عوض مواصلة مشوارهم الدراسي المفترض في كليات العلوم والتقنيات.
إذا كان البعض يربط النفور الملاحظ بالصعوبات اللغوية لدى الطلبة، فأنا شخصيا أستبعد أن تكون اللغة هي السبب الرئيسي والوحيد في هذا النفور المتزايد من متابعة الدراسة بكليات العلوم كما يروج له حاليا. صحيح أن هناك مشاكل في مستوى تمكن التلاميذ من اللغة الفرنسية لأسباب عدة، ولكن ألا يحق، بالمقابل، أن نتساءل عن حجم الغلاف الزمني الضخم الذي يستهلك في تعلم اللغات على حساب العلوم من السلك الابتدائي وحتى مستوى البكالوريا في علاقته بمستوى المتعلمين في اللغات عموما والفرنسية على وجه التحديد؟ أقول ضخم لأن عدد الساعات المخصصة لتعلم اللغات في السنة السادسة من السلك الابتدائي فقط على سبيل المثال يناهز الخمس عشرة ساعة أسبوعيا منها ست ساعات للغة الفرنسية وحدها والباقي موزع بين عربية وأمازيغية، بينما لا يتجاوز الغلاف الزمني الأسبوعي للنشاط العلمي ساعتين أسبوعيا تخصصان لتدريس العلوم والتكنولوجيا. وهكذا بالنسبة للمستويات التي قبلها وحتى التي بعدها حيث تظل اللغات متسيدة الأغلفة الزمنية للمواد؟ ماذا لو تم التركيز على تدريس العلوم بمختلف أصنافها، سيما علوم الفيزياء والكيمياء والحياة والأرض والتكنولوجيا من البداية وبلغة التدريس نفسها وفق مقاربة وظيفية وطرق نشطة، وعبر مواصلة تبني وتعميم وترسيم برنامج اليد في العجين الذي اعتمد منذ بداية الألفية الثالثة وشكل سلم ارتقاء وتطور في تدريس العلوم، عند الكثير من الدول، منذ الطفولة الأولى وسبيلا للرفع من كفايات المتمدرسين وتحسين مستوى التحصيل لديهم وتنمية كفاياتهم التواصلية والمنهجية والتكنولوجية وهم لا زالوا في سلك التعليم الابتدائي؟ ماذا لو تم الرفع من معاملات المواد العلمية ومواد التفتح الفني والتكنولوجي وتعميم هذه الأخيرة وتطوير منهجيات تدريسها وتقييمها ودعمها بالتجهيزات الديداكتيكية اللازمة وتأهيل مدرسيها والرفع من كفاياتهم المهنية؟ هل سنلاحظ مستوى التحصيل المتدني نفسه في العلوم الذي ستفرزه لنا الكثير من الاختبارات الدولية والوطنية التي نشارك فيها؟ هل سيستمر نفور الطلبة من الإقبال على متابعة دراستهم الجامعية بالشعب العلمية المفتوحة أمامهم في الجامعات؟
أسئلة نحتاج من أجل الإجابة عنها لقرار سياسي يحسم في أهمية تدريس العلوم وباقي مواد التفتح بكل أصنافها بالمدارس الابتدائية والثانوية وإلى الآليات الكفيلة بتفعيله في واقع الممارسة من خلال التأطير القانوني لتدريسها وعبر مأسسة برامج التكوين الملائمة والتأطير البيداغوجي الميداني المستمر والفعال ومن خلال إرساء بنيات الاستقبال الملائمة والمجهزة والأغلفة الزمنية المحترمة ونظام التقويم الملائم الذي يمكن من رصد وتقييم مستويات التمكن التدريجي من كفايات المتعلمين العلمية والتكنولوجية والتواصلية والثقافية والاستراتيجية واعتماد نظام التوجيه الملائم على ضوئها، وعندها سنرى التغيير الذي يمكن أن يحدث لدى الناشئة ولدى التلاميذ والطلبة عموما!
/////////////////////////////////////////////////////////