إشكاليات الهوية والاختلاف
رضوان السيد
شهدتُ على فضائية عربية عرضا بالصوت والصورة لجناح اليابان في معرض «إكسبو 2020 دبي». وكانت لغة العرض شديدة التسامح والعمومية، أما تشكيله وتركيبه، بل وتصوراته التي يريد الإيحاء بها للمُشاهد، فهي حافلة بالتميز والتركيز على الاختلاف عن العالم الآسيوي والعالم بعامة. فحتى الساموراي والغيشا يبرزان بوصفهما خصيصة يابانية لا تتكرر ولا يمكن تقليدها..
اليابان مجموعة من الجزر الكبرى والصغرى المأهولة وغير المأهولة، وفي جناحها بمعرض دبي بدت كأنما هي كرة أرضية مستقلة عن كرتنا الشهيرة، أرضا وفضاء ومدنا! وإذا شئتُ أن أعبر عن انطباعي، فقد رأيت أن المدن والملابس، بل وطريقة العروض كلها على «الستايل الأمريكي»! إنه نموذج اصطنعته القارة الجديدة، وما عاد الخلاص منه ممكنا.
إن كل هذا الحديث عن «الاختلاف» الياباني، ما كان المقصود به السلب أو الإيجاب، بل إبراز المفارقة في التأكيد على الاختلاف في زمن يريد فيه الجميع الزعم بأنهم لم يقعوا في شِراك الهوية المنعزلة أو ممارساتها.
ولو تأملنا الأمر بهدوء لما وجدنا أن هناك علة حاكمة لاطراد التناقض أو انتفائه بين الهوية الوطنية والتكنولوجيا. فهناك تيار قوي جدا في الهند، خلال العقدين الأخيرين للهوية القومية الدينية المتميزة، وهذا التيار يحكم في تلك البلاد الشاسعة، وبدأ ينال من حريات الآخرين الدينية وحراكهم الاجتماعي والاقتصادي، لكن التكنولوجيا الهندية متفوقة وسارية في العالم المعاصر، كخبراء ومنتجات، ولا يظهِر أحدٌ كبيرَ انزعاج من تحكم حزب «بهارتيا جاناتا» بمقدرات البلاد السياسية والاقتصادية! وهكذا، فأين هي الحدود بين الهوية الخاصة (التي لا تغيب في بلد) والتمييز والاستقواء والاستضعاف والجَور.
قبل قرابة القرنين، كان المعتقد أن «العقلانية» المؤدية إلى التقدم العلمي والتقني، والتي أنتجت النظام الرأسمالي الفريد من نوعه في تاريخ العالم (بحسب ماكس فيبر)، تقترن ولا شك بالرقي القيمي والأخلاقي والإنساني.
نعرف اليوم بيقين، وبعد حربين عالميتين هائلتين قُتل فيهما زهاء المائة مليون إنسان وجرتا في قلب عوالم العقلانية، أنه لا علاقة بين العقلانية العلمية والأخرى القيمية والأخلاقية. لكن والحق يقال إن المطالب القيمية والأخلاقية والمستندة تارة إلى العقلانية الرشيدة، وتارة أخرى إلى الدين، هي عالية الصوت أيضا في عوالم الغرب، الذي ادعى دائما أنه بزغت في جنباته كل نواتج العقلانيات والإنسانويات.
الدولة الوطنية اليوم، وبعد التعديلات في أصلها القومي المتشدد، تحتاج بلا شك إلى درجة من الخصوصية تبلغ حدود التسمية بالهوية. لكن ما تشهده أوروبا وتشهده أمريكا من خصوصيات وشعبويات تتجاوز حدود الهوية المعقولة أو العقلانية (!).
فوكوياما في كتابه «الهوية» (2018) يعطي لذلك أسبابا محلية تتعلق بحجم الحكومات وباستغلال الموارد، وما تشعر به فئات اجتماعية من تهميش في اقتصاد السوق. بيد أن تلك هي طبيعة النظام الرأسمالي.
وإنما الخلاف في ضرورة الالتزام بمقاييس معينة وحدود قانونية وإنسانية، في المجالين الوطني والعالمي. وقد ذكرت اليابان نموذجا للحيرة، وليس فيها حتى الآن شعبويات! ولدى دول النهوض العربي مقولتان لتجاوز الانكماشية الدينية والقومية، هما: التنمية الشاملة، والمواطنة الشاملة. وحتى اليوم فإن هاتين المبادرتين هما الوسيلة الأجدى للخروج من الشعبويات والصحويات.