إسرائيل وغزة
بقلم: خالص جلبي
الكاتب الإسرائيلي (أوري أفنيري) قام بتحليل حرب الخليج الفائتة. وجدير بالذكر بعد الصراع العربي الإسرائيلي الأخير أن الأحداث كما يقول مالك بن نبي تحكمها قواعد السببية، فكل حدث هو سبب لما سيأتي بعده، وهو في الوقت نفسه نتيجة لما سبقه، فهو في علاقة جدلية ما بين ما قبل وما بعد، وأحداث غزة في ماي 2021 هي حلقة في سلسلة متتابعة من الصراع في المنطقة. ويومها قال أفنيري رأيه في حرب الخليج: «إن الإجابة صعبة، لأنها في حقيقتها حرب عبثية». وعندما يحاول استقراء الأسباب يضع تسعة تساؤلات تتراوح بين «ماذا يريد بوش حقا؟ هل يريد إزالة الطغاة؟ هل يريد حماية الدول الصغيرة من جاراتها الخبيثة؟ هل كانت الحرب من أجل الديموقراطية؟ هل كانت من أجل تنفيذ قرارات الأمم المتحدة؟ هل هو التنظيم العالمي الجديد؟ هل هي من أجل النفط؟ هل هي من أجل حماية الدول المجاورة؟ هل هو الخوف من أسلحة الدمار الشامل؟». ليصل إلى تفنيدها نقطة بعد الأخرى؛ فأمريكا تعتدي على الجيران، وتحافظ على الطغاة، وهي التي مكنت العراق من السلاح الكيماوي، وسكتت عن استعماله في إبادة الأكراد والإيرانيين عندما كانت مصالحها مع الطاغية، ولم يعطل قرارات الأمم المتحدة إلا الفيتو الأمريكي. وأما النفط فهل سيشربه العراق، أم سيتابع بيعه؟ وأما المفاعل النووي فقد دمر وهناك من دول الجوار ما تملك من السلاح الكيماوي ما هو أخطر من النووي (طبعا لاستخدامه ضد شعوبها، كما حصل في الثورة السورية). وهل تحتاج حماية الدول المجاورة إلى شن حرب عالمية، وكان يكفيها حامية بسيطة. يعقب أفنيري على ما مر: «إن أمريكا تتصرف مرة أخرى بشكل يدعو للسخرية، كما فعلت قبلها كل القوى العظمى في التاريخ». ويصل (أفنيري) في نهاية تحليله: «سوف يقول الساخرون إن هذه الحرب كانت هبة من السماء لتجار الأسلحة بكل أنواعهم، لأن العديد من أنظمة التسلح سوف تجرب في المنطقة للمرة الأولى، وبدلا من تكديس الأسلحة في ألمانيا فمن الأفضل أن ترسل إلى الشرق الأوسط وتستخدم هناك (كما سمعنا عن قذائف اليورانيوم المنضب المسببة للسرطانات، والتي ظهرت على السطح لاحقا)، في الوقت الذي دفعت ألمانيا واليابان ودول المنطقة الثمن. ولكن من يستطيع الاعتقاد أن هذا هو الشيء الحاسم الذي دفع بوش إلى قرار الحرب؟». ويقرر أفنيري في نهاية تحليله أن «عبثية الحرب تبدو واضحة للعيان، حينما نتأمل أموالا لا تحصى تنثر في الصحراء من أجل الإطاحة بطاغية صغير، لإنتاج فيلم «كوبوي» يمثل فيه بوش الشريف وهو يطارد شقيا».
إن مبررات الحرب الخفية والعميقة، حسب أفنيري: «إن أخشى ما تخشاه الإدارة الأمريكية، هو بروز شخصية كارزمائية تصل إلى توحيد الشرق وإنهاء الاحتكار الأمريكي. إنه الدافع الذي جعل الولايات المتحدة تسقط مصدق، وهي التي دمرت عبد الناصر»، ونسي أفنيري أن (صلاح الدين) غير موجود. وفاته أن يضيف وتوريط (الخميني) في الحرب مع العراق في ثماني سنوات عجاف، أزهقت روح مليون مسلم وخسارة 400 مليار دولار. كما نسي أن يضيف أن تدمير (مصدق) كان بسبب ضعف وعي الجماهير، بحيث رتبت وكالة الاستخبارات الأمريكية انقلابا رخيصا تقوده عصابة من أشقياء وحرافيش الشوارع، بمبلغ خمسة ملايين دولار. وأما تدمير صنم عبد الناصر فكان سهلا، لأنه كان من صلصال كالفخار. إن المشكلة دوما ليست في الطغاة، بل في الجماهير العمياء المغفلة.
يقول (أفنيري): «إنه ليس من المصادفة أن تبدأ الحرب العالمية الرابعة، فيما لو افترضنا أن الحرب الباردة مثلت الحرب العالمية الثالثة بين الشرق والغرب. أما الآن فقد بدأت الحرب بين الشمال والجنوب، بين الدول الصناعية والدول المنتجة للمواد الأولية». ويخلص الكاتب إلى هذا الدرس: «إن أمريكا تريد أن تعطي درسا للعالم الثالث برمته، أن لا ينهض على قدميه ولا يفكر بالمقاومة قط».
إن أجمل معارك أمريكا هي مع السلاح المتطور الذي يدمر في ساعات، فلا يعقل أن تزود أمريكا الطغاة بأسلحة كي يتفوقوا بها عليها. يقول أفنيري إن هذا السيناريو هو «الأرجح والأخطر من نوعه». ويقترح (أفنيري) أن تتصرف إسرائيل قبل أن يتهددها الخطر الأكبر بالتفاهم مع العناصر الوطنية الفلسطينية، وتقديم سلام مشرف للجيران العرب «بهذه الطريقة يمكننا أن نعطل مفعول التسمم، وأن نتفادى اندلاع البركان، ولكن هل نفعل ذلك حقا؟ بكل أسف يبدو أن القضية ليست كذلك». ويبدو أن السم مع الموت وحب الاحتلال، بدأ يفعل مفعوله في قميص هرقل، كما جاء في أسطورة نيسوس يقول أفنيري: «يبدو أننا تلبسنا قميص نيسوس»، ولا فكاك منه. وهي أسطورة معبرة عن قميص حاولت زوجة هرقل أن يعشقها زوجها، فكلفت كائنا أسطوريا من إنسان وحصان أن يغمس القميص في نبع الحب، فقام نيسوس الأسطوري بغمسه في نبع من السموم، فلبسه هرقل فمات بدل العشق. وهو خيار إسرائيل، حسب تحليل الراحل أفنيري.
إن التحليل الذي تقدم به الكاتب الإسرائيلي شهادة رجل عاقل من عمق الأنتلجنسيا الإسرائيلية، تروي حقيقة المشكلة أن إسرائيل تورطت بلباس لن تنزعه إلا بنزع الروح، وهو بشير بولادة أمة جديدة من رحم المعاناة.
إن داوود يناجز جالوت فقد انقلبت الأدوار بعد ثلاثة آلاف سنة. هل يمكن أن نستوعب أن انهيار الجهاز المناعي العربي هو الذي مهد لنمو الورم الصهيوني؟ وهل يمكن أن يراجع حكام العرب أنفسهم ويقوموا بتوبة لما اقترفت أيديهم تجاه بعضهم البعض، وأنهم متشابهون ولا نفرق بين أحد منهم. وأن حل المشكلة ليس عند أمريكا، بل بأيدينا؟ ورد في الحديث أن المسلمين إذا اختصما، ثم التقيا فيعرض هذا ويعرض هذا، وخيرهما الذي يبدأ صاحبه بالسلام. إن مرض الثقة خطير وبناؤه صعب وكسره سهل. «وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير».
التحليل الذي تقدم به الكاتب الإسرائيلي شهادة رجل عاقل من عمق الأنتلجنسيا الإسرائيلية، تروي حقيقة المشكلة أن إسرائيل تورطت بلباس لن تنزعه إلا بنزع الروح