إذ يصبح الإرهاب طوق نجاة
الفاشلون والفاسدون أدركوا أن أفضل وسيلة لإطالة أعمارهم في السلطة هي رفع راية الحرب ضد الإرهاب. فهموا اللعبة واكتشفوا من خبرات الآخرين أن ذلك يحقق لهم اكتساب الشعبية من ناحية والقبول في الساحة الدولية من ناحية ثانية. هذا المنطوق ليس لي، لكنه خلاصة انتهى إليها خبير الشؤون البلقانية الدكتور محمد الأرناؤوط الأكاديمي ذو الأصول الكوسوفية. إذ نشرت له جريدة «الحياة» اللندنية في 30/8 تقريرا بهذا المعنى كان عنوانه «الحرب على الإرهاب في البلقان رافعة جديدة لتعويم الحكومات الفاشلة».
كان وزير الداخلية الألماني قد لفت الانتباه إلى أن 40 في المائة من طالبي اللجوء إلى ألمانيا يأتون من دول غرب البلقان (مقدونيا وكوسوفو وألبانيا…إلخ»، وليس من دول الصراعات المسلحة مثل سوريا وأفغانستان والعراق، واعتبر الرجل ذلك عارا على أوروبا. لأن دول البلقان تلك مرشحة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وهو ما حدث مع جمهورية مقدونيا التي صنفت كذلك منذ عام 2005. أضاف الدكتور الأرناؤوط أن السبب في تزايد الهجرة من الدول البلقانية هو فشل حكوماتها وانتشار الفساد فيها، الأمر الذي أوصل معدل البطالة في مقدونيا مثلا إلى 30 في المائة. وهو البلد الغني بالموارد الذي توقع له كثيرون أن يصبح «سويسرا البلقان». إلا أن ذلك الطموح تراجع كثيرا بسبب فشل حكوماته واحتكار الحزب الحاكم للسلطة (الحزب الديمقراطي للاتحاد القومي المقدوني) ورئيسه المتشبث بالحكم نيقولا غرويفسكي، الذي له قصة تستحق أن تروى.
الرجل اكتشف لعبة السياسة حين كان في الثلاثين من عمره. لذلك عمد إلى رفع الشعارات القومية المتشددة، التي كان على رأسها دعوته إلى «إنقاذ مقدونيا». وهو ما أتاح له الوصول إلى رئاسة الحزب في عام 2003. ثم بمزيد من الشعارات القومية في الحملة الانتخابية للبرلمان وصل إلى رئاسة الحكومة في 2006. وحين فعلها فإنه استثمر موقعه في إقامة شبكة مصالح تمكنت من تمرير القرارات التى تحقق مصالحها باسم الحكومة والبرلمان والقضاء.. إلخ. وبذلك تمكن من الفوز في الانتخابات التى جرت في عام 2014 ليبدأ ولايته الرابعة. إلا أن المعارضة اليسارية لم تعترف بنتيجة الانتخابات وقاطعت البرلمان، ولجأت إلى سلاح التسريبات السرية، إذ عمد زعيمها زوران زائيف إلى بث أسبوعي لتسجيلات مكالمات غرويفسكي السرية لرؤساء الأجهزة الأمنية والقضائية والاقتصادية. وهي التي فضحته وكشفت عن وجود دولة موازية وراء الكواليس يدير البلد لأجل مصالحها. فجرت التسجيلات غضب الرأي العام. فخرجت المظاهرات الغاضبة التي بلغت ذروتها في مايو الماضي إلى شوارع مقدونيا مطالبة بسقوط الحكومة وإجراء انتخابات برلمانية مبكرة. هذه المظاهرات واجهتها الأجهزة الأمنية عن طريق تفجير نزاع عرقي وديني بين الأغلبية السلافية والأرثوذكسية وبين الأقلية الألبانية المسلمة، التي تمثل 30 في المائة من السكان. ولم تفلح المحاولة في صرف الانتباه عن فضائح تسريبات غرويفسكي، فازداد ضغط الاتحاد الأوروبي والأمريكي على الرجل، الأمر الذى اضطره إلى القبول بتشكيل حكومة انتقالية وإجراء انتخابات مبكرة في مطلع عام 2015. لم يستسلم الرجل أو يهدأ، ذلك أنه وجد أن الحرب على الإرهاب التي تقودها الولايات المتحدة يمكن أن تخفف من الضغط الأوروبي عليه، ففاجأت أجهزته الأمنية الرأي العام في شهر أغسطس الماضي بالإعلان عن إلقاء القبض على عشرة أشخاص على رأسهم خطيب اسمه رجب ميميشي وملاحقة 30 آخرين، وكانت تهمتهم هي المشاركة في أعمال إرهابية. وقصد بذلك أن هؤلاء يدعون إلى التطرف ويحفزون الشباب للالتحاق بـ«داعش» في سوريا والعراق. وهو ما أحدث صداه السريع حين أصدرت السفارة الأمريكية في «كوبيه» العاصمة بيانا رحبت فيه بجهود حكومة غرويفسكي في محاربة الإرهاب. المحللون لم تفتهم الملاحظة واعتبروا العملية طبخة أمنية. وذكرت صحيفة «رنفنيك» وغيرها أن الأجهزة الأمنية كانت تعلم بنشاط الشيخ رجب ومجموعته، خصوصا أن المجلس الذي يمثل مسلمي مقدونيا اشتكى مرارا من دعوته التي يبثها من خلال سيطرته على أحد مساجد سكوبيا القديمة، بعدما أبعدته السلطات السعودية لتطرفه، حيث كان يدرس في إحدى جامعاتها. ورغم شكوى المجلس فإن وزارة الداخلية رفضت التدخل في أمره، إلى أن تم استخدامه في الفرقعة الأمنية الأخيرة.
السيناريو ذاته تكرر في كوسوفو. إذ بعد سنة من تولي غرويفسكي للسلطة وصل في عام 2007 الشاب هاشم تاتشي إلى رئاسة الحكومة الكوسوفية، بعد انتخابات برلمانية فاز فيها حزبه بشعارات قومية ألبانية. حيث صعد من شعبيته بإعلان الاستقلال عن صربيا عام 2008. وهو ما استغله للاستمرار في الحكم حتى انتخابات عام 2014 التي ادعى حزبه أنه فاز بها وهو الآن يستعد للانتقال إلى منصب رئيس الجمهورية في مطلع 2016. كرر الرجل الأسلوب الذي اتبع في مقدونيا، إلا أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة تدخلا بصورة مختلفة، تمثلت في فرض تشكيل محكمة دولية على كوسوفو لتحاكم سياسيين حول تاتشي وربما طالته نفسه، بتهم تتعلق بما نسب إليهم من اعتداءات بحق المدنيين حين كانوا ضمن جيش تحرير كوسوفو (1998 ــ 1999). وتصور البعض أن تلك وسيلة لإخراج المجموعة كلها من الحكم. في مواجهة ذلك، ولتعويم الحكومة الفاشلة في كوسوفو وصرف الانتباه عن الأزمة الاقتصادية التي دفعت كثيرين إلى الهجرة خارج البلاد، أطلقت الأجهزة الأمنية الفرقعة ذاتها. فأعلن أنه تم ضبط اثنين يحملان أعلام داعش بالقرب من بحيرة بادوفتس التي تزود العاصمة برشتينا بالمياه. وتزامن ذلك مع قطع مياه الشرب عن العاصمة، وهو ما أصاب كثيرين بالهلع حين أشيع أن داعش أصبحت بينهم. وتم مد أجل التحقيق مع الشابين لإطالة أمد التوتر السائد، ومن ثم دعوة الناس للالتفاف حول الحكومة لمواجهة «خطر الإرهاب» » ولا يزال العرض مستمرا.