ولد إدريس الشرايبي بمدينة الجديدة بالمغرب سنة 1926 وسط أسرة غنية أصلها من مدينة فاس. تابع دراسته في ثانوية تابعة للبعثة الفرنسية بالدار البيضاء حيث كان يدرس أبناء الفرنسيين والأعيان المغاربة. بعد حصوله على شهادة البكالوريا العلمية بامتياز عام 1945، انتقل إلى العاصمة الفرنسية لتحقيق حلم والده: مهندس في الكيمياء.
بعد تخرج إدريس الشرايبي عام 1950 وضع جانبا شهادته دون أن يلتفت إليها ليبدأ مغامرة الكتابة. كان بطبعه أنيقا وذكيا ومتمردا. كان باستطاعته العيش في رغد بيت الأعيان لكنه فضل ركوب أمواج المغامرة.
استطاع الكاتب الشاب، بعيدا عن سلطة الأب وأمواله التي قطعها عنه بسبب تمرده، الاشتغال في كل الحرف المتواضعة من حارس ليلي إلى بائع متجول، مرورا بمعلم للغة العربية أو صباغ. استطاعت روايته «الماضي البسيط»، التي صدرت سنة 1954، أن تغير ملامح الرواية المغربية المكتوبة باللغة الفرنسية.
عاش إدريس الشرايبي معظم حياته في الغربة. ورغم تخرجه مهندسا في الكيمياء، فقد درّس الأدب المغاربي بجامعة لافال بكندا، وانضم إلى اتحاد كتاب المغرب سنة 1961. كما عمل في الصحافة التي ساعدته على التعرف على العديد من الأدباء. حصل على جائزة أفريقيا المتوسطية عن مجموع أعماله، وعلى جائزة الصداقة الفرنسية-العربية سنة 1981، وجائزة «مونديللو» الإيطالية عن ترجمته لكتاب «مولد الفجر في إيطاليا». توفي كاتبنا الكبير سنة 2007 بفرنسا ودفن حسب وصيته في بلده المغرب بمدينة الدار البيضاء.
نرجو من القراء الأعزاء اعتبار هذا الملف الصغير عن إدريس الشرايبي تحية أدبية من جريدة «الأخبار» لهذا الكاتب الخالد.
«التيوس» وقضايا الهجرة
محمود عبد الغني:
عاد إدريس الشرايبي (1926-2007) إلى التداول من جديد بفضل ترجمة روايته «التيوس» (الفنك، ترجمة: محمد حمودان، 2021) بعد نسيان طال الكاتب ورواياته لعدة سنوات، ولعدة أسباب، اللهم باستثناء بعض الدراسات والأبحاث الجامعية المتفرقة على مدى سنوات.
صدرت هذه الرواية المتوسطة الحجم سنة 1955 (غاليمار، 192 صفحة)، وأعيد طبعها سنة 1989، ولم يكن الشرايبي قد تجاوز سن الثلاثين، لكنها أثارت نقاشًا واسعًا اتخذ ألوانًا سياسية، أدبية، ثقافية عامة، قانونية، نفسية… رواية وُصفت بالـ«مزعجة»، فالكاتب الشاب، ينحدر من شمال إفريقيا، من المغرب- المستعمرة الفرنسية سابقًا، «تجرأ» على الدولة المستعمرة وفضح تجريدها للمهاجرين من إنسانيتهم. الشيء الذي لم يمر سريعًا في فرنسا، إذ أثارت الرواية «غضب أنصار اليمين الفرنسي الذين نعتوه بالمعادي للغرب…»
ظل الدارسون الفرنسيون يذكرون «التيوس» إلى جانب أشهر روايات الشرايبي «الماضي البسيط»، الرواية التي سبقت «التيوس» بسنة، فقد صدرت سنة 1954، وكان قد عبر فيها عن خيبة أمله في فرنسا، بعدما كان أحدُ كبار المدافعين عن وجود فرنسا في المغرب، بداعي أنها جاءت لتحديث البلد الذي كان يعيش فوضى قاتلة. ومثلما قال الشرايبي نفسه، إن بطل «الماضي البسيط» إدريس فردي «هو أنا»، لذلك ليس أمرًا مستَبعَدًا أن تكون الشخصية الرئيسية في «التيوس» هي إدريس الشرايبي.
ولد إدريس الشرايبي في مدينة مازاغان المغربية عام 1926، وهي مستعمرة برتغالية قديمة، دامت تحت السلطة البرتغالية نحو 267 سنة. تقع على ساحل المحيط الأطلسي. وهي تسمى اليوم بـ«الجديدة». درس الشرايبي الكيمياء، لكنه سرعان ما تخلى عنه مرتحلًا نحو الأدب، الأمر الذي أغضب والده بائع الشاي الغني. فتحول الشاب إلى مهاجر مفلس اضطرته ظروفه المادية الصعبة إلى مزاولة مهن صغيرة حين تواجده بباريس، في بداية خمسينيات القرن الماضي. والتقى بعض الكتاب الفرنسيين المشهورين: ألبير كامو، جان بول سارتر وفرانسوا مورياك. لكن خاب أمله فيهم، خصوصًا فرانسوا مورياك الذي وصفه في «التيوس» من خلال وصفه لشخصية «ماك أوماك». إن مورياك شخصية غامضة، وهذا سبب إدانة الشرايبي له. علمًا أنه كان قد أهدى إليه نسخة من الطبعة الأولى من روايته «الماضي البسيط». ومن خلال نقد مورياك يوجه الشرايبي نقدًا لاذعًا للمثقفين الباريسيين «الذين نصبوا أنفسهم، لغرض في نفس يعقوب، ممثلين ومدافعين عن المهاجرين المستَعمَرين الضائعين في متاهة من التعقيدات الإدارية والمستغلين في فرنسا ما بعد الحرب، حيث يُنظر إليهم فقط باعتبارهم خزانًا للسواعد الضرورية لإعادة الإعمار والإزهار»، بحسب الباحث قاسم باصفاو، المتخصص في أدب الشرايبي.
يعتقد بعض الباحثين والقراء أن رواية «التيوس» هي باكورة الشرايبي الروائية، لأنها صدرت سنة 1955، بعد عام من صدور «الماضي البسيط» (1954). لكن، حسب اعتراف الكاتب نفسه، فـ«التيوس» كُتبت قبل «الماضي البسيط»، إلا أنه عمل على تنقيحها ثم نشرها بناء على طلب من الناشر «دونويل». إن القارئ يلاحظ الرُقُي الأسلوبي والسردي والتأليف الذي يتميز بمهارات الكُتاب الكبار. لهذه الأسباب اعتُبرت «التيوس» ثورة على مستوى الشكل والمضمون الروائيين في الرواية المغاربية الحديثة. إضافة إلى أنها الرواية الأكثر راديكالية في إنتاجه الروائي، وهذا دليل على تمرد جذري في شخصية الكاتب. لقد كان الشرايبي مفرط الحساسية تجاه قضايا المهاجرين وقضايا الدول المستضعفة.
«اعتُبرت «التيوس» ثورة على مستوى الشكل والمضمون الروائيين في الرواية المغاربية الحديثة. إضافة إلى أنها الرواية الأكثر راديكالية في إنتاجه الروائي، وهذا دليل على تمرد جذري في شخصية الكاتب».
تعطي رواية «التيوس» نموذجًا عن أن الهجرة أصبحت رافدًا أدبيًا كثيفًا، والشرايبي بعدها أصبح أحد أكبر ممثلي هذا الأدب. يمكن أيضًا ذكر الكاتبين الجزائريين محمد ديب ورشيد بوجدرة، والمغربي الطاهر بنجلون. وذلك من خلال توظيف شخصيات المهاجرين، ليس بطريقة سياسية (الدفاع الأيديولوجي)، ولا اجتماعية (دوافع الهجرة)، بل من زوايا إنسانية. فكان الشرايبي بمثابة المثقف الشاب (المهاجر) الأقرب إلى قضية الهجرة من دول العالم الثالث إلى الدول والأنظمة المتجبرة. إن المثقف في الرواية يُدعى «والديك»، أما شخصية «راوس» فتحمل معاني المواجهة الشاطرة والماكرة. أما «التيوس» فهم الجوقة الحاضرة في كل مكان، داخل شروط التهميش على جميع المستويات. تقيم وتعيش وتعمل في أمكنة عفنة، متكدسة من الصفيح داخل فضاء مدينة «نانتير». لهذه الأسباب الأدبية والاجتماعية والفكرية تبقى رواية «التيوس» تحتفظ براهنيتها، وكأنها كُتبت عن جميع المهاجرين العرب.
مقطع من رواية «التيوس»
من خشب. من خشب أبيض. هذا كرسي من خشب أبيض.
فتح شخص ما الباب بركلة. لكنني لم أر أحداً يدخل. رأيت فقط قدما ضيقة وطويلة، منتعلة حذاءً ضخماً من جلد البقر. قرع الأرضية الإسمنتية – فحدث دوي مثل طلقة نارية على امتداد السبعة والعشرين متراً مكعباً للغرفة – ثم غرس مقدمة الحذاء في بطن القط فرأيت ذيل قط يحلق، متصلب مثل حبل. بالكعب أغلق الباب.
– ها هو اللحم.
صفعت الكتف الحائط، دمغته بختمها الأحمر وتدحرجت عند قدميّ بصوت رخو.
هذا إذا كرسي أبيض. أجلس عليه.
ـــ قال لي الجزار: وأنت، سيدي، ما الذي يلزمك؟ قلت له: هذه القطعة من هذا اللحم ثم سددت له لكمة وأمسكت بقطعة اللحم.
كانت بطاقة السيليلويد الأبيض ما تزال عالقة بها، وعليها هذا الرقم المكتوب باللون الأحمر: 84. أزلتها وربطتها بعروتي، وأنا أخمن بصورة مبهمة أنني سأتوفر يوما ما على أربعة وثمانين فرنكا كي أسدد المبلغ للجزار.
ـــ لابد أنه اتصل ببوليس النجدة وأعطاهم وصفا دقيقا لسارقه: رجل من شمال أفريقيا. ولابد أن يكون قد ألقي القبض عليه، على الرجل الشمال أفريقي، أي رجل شمال أفريقي، الأول الذي يكون قد ظهر عند زاوية الشارع. ولا بد أن يكون الجزار قد صرخ: لا شك في ذلك، إنه هو بالفعل.
ها أنا إذا قد جلست، وأنظر. أفعل ذلك برعب كما لو أنني كنت أعمى مُنّ عليه للتو بعيني وشقٍ.
نوافذ رمادية ليوم رمادي. في الخارج تبدو الأشجار كأنها هياكل عظمية سوداء. وأنا أنظر إليها تلتوي في الرياح، أسمع هزيـــــز الرياح. حاسة السمع، أسترجعها هي أيضا لكن بطريقة غير دقيقة، دون إمكانية ولا حد للتناغم، وأقول، وأنا أسمع الرياح تئن، ها هو ذا صهيل الهروب.
محمد حمودان
مترجم إدريس الشرايبي
- عن ترجمتي لرواية «أم الربيع»
تحكي رواية «أم الربيع»، التي تستلهم أحداثها من وقائع تاريخية، عن الفتح الإسلامي للمغرب الأقصى، بقيادة عقبة ابن نافع، وعن لقاء شعبين، العرب الزاحفين من المشرق، والأمازيغ، أصحاب الأرض، وبين رجلين، أزواو، الزعيم الأمازيغي، من جهة، وعقبة ابن نافع، قائد جيش الفاتحين من جهة أخرى.
تبدأ الرواية من حاضر قبيلة آيت يافلمان الأمازيغية، في شخص رحو آيت يافلمان، وهو رجل مسن يتسم بالحكمة، والصبر ونفوذ البصيرة، لتغوص بالقارئ في ماضي القبيلة، قبل دخول العرب إلى المغرب، وبعد نشر الدين الجديد.
ومن هنا، يبدو الحاضر مثل مرآة تعكس الماضي السحيق، وكأن الدولة التي تمخضت عن الاستقلال من الاستعمار الفرنسي تمثل، عبر جيش موظفيها، جيش الوافدين من الشرق، وكأن رحو يعكس صورة سلفه البعيد أزواو.
بالفعل، نحت الشرايبي شخصيتي رحو وأزواو في نفس الصخر، وأضفى عليهما هالة من العظمة، بل الكثير من القداسة، فإذا كان أزواو يشبه إلى حد بعيد رسول الله محمد، كما لو أن الكاتب يسعى للجعل من هذه الشخصية، المتمخضة من خياله، نبيا، إسوة بحامل الرسالة الدينية الجديدة، يقود شعبه نحو الخلاص، بالعمل جاهدا على الحفاظ عن لغة وهوية هذا الشعب، حتى لو اعتنق الدين الجديد، فإن رحو يتجلى كحامل للمشعل، ومكمل لمهمة سلفه.
تتدفق أحداث الرواية مثل النهر الذي تحمل اسمه، في نفس ملحمي، يصور صراع أزواو وشعبه مع الطبيعة، مع الجائحة التي تلت نضوب النهر وكادت أن تفني هذا الشعب، صراع من أجل البقاء وعبور الزمن، ثم الصراع، بنفس الصبر والحنكة، مع الجيش القادم من الشرق.
في ما يخص مسألة الترجمة، فقد عملت على أن أظل وفيا للنفس الملحمي وللموسيقى التي تعبر النص الأصلي، وكذا لروح السخرية التي نعثر عليها أحيانا بين طيات هذه الرواية، كما عملت على أن تتدفق الجمل، في اللغة العربية، مثل مياه نهر أم الربيع، بسلاسة وقوة هادرة…
-
عن ترجمتي لرواية «التيوس»
بعد صدور ترجمتي لرواية «أم الربيع»، طلب مني سيمون بيير هاملان، مدير دار مكتبة الأعمدة للنشر، وهي نفس الدار التي نشرت «أم الربيع»، وكذا شينا الشرايبي، أرملة الكاتب، أن أقوم بترجمة رواية «التيوس»، وهي رواية كتبها الشرايبي، حسب ما ساقه قاسم باسفاو في مقدمة الترجمة، قبل روايته الشهيرة «الماضي البسيط»، حتى لو تم إصدارها سنة بعد هذه الرواية، فقبلت أن أخوض مغامرة ترجمة نص مركب، وصعب، كتب بلغة محمومة، ومشدودة، وجافة في بعض الأحيان، على صورة «ينعل والديك»، بطل الرواية، وأبناء جلدته من المهاجرين المغاربيين، الجزائريين بشكل خاص، في فرنسا خلال خمسينيات القرن الماضي، لأن موضوع الرواية يهمني، بما أنني مهاجر منذ سنوات في فرنسا، ولأنني كنت أرغب في مواجهة التحديات التي تضعها أمامي، كمترجم، رواية من هذه الطينة.
باختصار، تحكي هذه الرواية، عبر لسان بطلها، وهو كاتب جزائري شاب، عن معاناة المهاجرين، عن ظروف عيشهم القاسية، وعن نظرة الاحتقار والتعامل العنصري والفج التي يخصهم بها الفرنسيون، أكانوا مواطنين عاديين، أو أرباب، أو حتى كتابا ومثقفين.
اعتمدت، في ترجمة «التيوس»، نفس «استراتيجية الترجمة» التي عملت ضمن ركائزها، عندما ترجمت «أم الربيع»، أي أنني كنت حريصا على أن تعكس اللغة العربية، داخل النسق الخاص بها، حالة الاضطراب التي تسود، في نفس الآن، داخل النص بالفرنسية وفي روح الشخصيات، والإيقاع المتوتر للجملة.
الفجر.. ما الفجر؟ وما أدراك ما الفجر؟
كان القائد عقبة بن نافع يركض بحصانه على رأس جيشه.. يركض بشكل لا يقاوم، انطلاقاً من باب إفريقية، وسط لهات الخيل، العاديات وسط انبعاث الشرر من تحت حوافرها، وسط نقع الغبار المتصاعد إلى السماء، وسط الانبثاق المتواصل للإسلام في فجره. كان فجر الإنسانية بداخله في كل واحد من أفعاله، في كل واحدة من كلماته، قرآنياً. كان ذلك كما لو أنه لم يكن ينتمي إلى ذلك القرن، كما لو أنه ولد عشرات السنين من قبل، في اليوم نفسه الذي ولد فيه راع من قبيلة قريش يُسمّى محمداً، كما لو أنه تلقى معه أول الوحي، في غار من غيران صحراء العرب («اقرأ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ […] كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِب.») ثم كامل الوحي الذي صار في ما بعد الكتاب. نعم! بالتأكيد نعم! والروح ومن سواها، كان ذلك كما لو أن عقبة عرف صحبة النبي الهزة الهائلة، الارتجاج الساطع عند سماع الكلمة الربانية. بعلم يقين، كان متأكداً أنه عاش هو أيضاً النفي، الهجرة، كل معارك الصحابة الأولين للأمة، إتمام المصير كله، ثم… ثم تلك العودة العارية، المنتحبة والمنشدة إلى مكة. عندما صعد بلال، المؤذن الزنجي، أول عبد يعتقه النبي، إلى سقف معبد الكعبة حيث كانت أوثان الظلمات تتربع على العرش، وأطلق، بصوته الرحب وإيمانه الشاسع، أول أذان للصلاة، كان ذلك كما لو أنه، هو عقبة بن نافع، صعد معه وفيه في ذلك اليوم، وأعلن السلام.. السلام، تصالح البشر مع أنفسهم ومع كل حقب الخلق، بالآفاق الأربعة، بالمغربين والمشرقين، بالبحرين وجميع شموس الكون.