أين العامل الطاهر أوعسو؟
هل يصلح كل عمال وزارة الداخلية لأن يكونوا رجال سلطة؟ البعض أخذ من السلطة عصارة القوة والثروة والجاه. والبعض النادر استلبت منه الصحة وراحة البال. وثمة من زاوج بين الأخذ والعطاء على قدر المنافع والامتيازات.
المفارقة أنه حين كانت الجامعات المغربية تغلي بالخطب النارية ذات الرداء اليساري المتشدد، كانت الطريق معبدة أمام بعض رموز التيار ذاته كي يصبحوا وزراء وعمال أقاليم. فالجامعة مشتل أفكار وصراعات، فيما الانتماء إلى سوق العمل اختيار أو إكراه. ولاشيء يجبل الناس البالغين سن الرشد الجسدي والفكري على اتباع ما لا يرتضون.
استفسر الحسن الثاني يوما عن العامل الطاهر أوعسو الذي لم يعد يظهر له أثر، بعد أن كان حضوره لافتا في مراسم الزيارات التفقدية إلى الأقاليم. كان يعرف أنه أبعد عن الواجهة مثل آخرين، حامت شبهات حول علاقاتهم بالجنرال محمد أوفقير، وزير الداخلية، وبعده الجنرال أحمد الدليمي، قائد المنطقة الجنوبية. وتعمد أن يسأل عنه لحاجة في نفسه.
بسبب رسوخ القناعة لديه بأن الأسلوب هو الشخص، لم يكن الحسن الثاني يفصح دائما عن مراميه، كان يكتفي بالإيحاءات الدالة، وكان يتجنب الحديث عن الأشخاص بأسمائهم إلا عند الضرورة، كما كان شغوفا بالأمثال والقصائد الشعرية في إيصال رسائله. وحدث في مناسبات عديدة أنه خاطب قادة دول بمأثور الحكم والأقوال لاستكناه حدث أو موقف، في غير الزمان الذي قيلت فيه. والتفت أمير دولة الكويت في زيارة إلى المغرب، يبحث عن لغز المنطوق الملكي الذي جاء فيه: «يلا بقى الراس ما تعدم شاشية»، في إشارة إلى استمرار السلطة الشرعية في الكويت بعد غزوها من طرف القوات العراقية.
كنت بصدد الحديث مع إدريس البصري حول أي الرجال أقرب إلى ممارسة السلطة في سلك العمال والولاة. هل يفضل أن يكونوا من خريجي مدرسة تكوين الأطر الذين يتدرجون في سلم المسؤوليات، من القيادة إلى الباشوية والكتابة العامة للعمالات، داخل السلطة المركزية أو الإقليمية، أم يحبذ تطعيم الإدارة الترابية بكفاءات تقنوقراطية؟ لم يجب عن السؤال صراحة، وروى لي حكاية عن العامل الطاهر أوعسو، همت فترة إبعاده، قبل أن يصبح البصري وزير داخلية.
لا بأس من أن أعرج على هذا التعيين، فقد حدثني الوزير الأول الأسبق المعطي بوعبيد أن الحسن الثاني فاجأه يوما بطلب رأيه في رفيقه الذي كان يمارس معه هواية كرة القدم في ملعب «المنظر الجميل» في الرباط مرتين في الأسبوع. قال له ضمن روايته: «إنك ملم بقواعد كرة القدم التي تتطلب فريقين وحكما واحدا». ورد بوعبيد بالقول إن تلك المباريات تتم في غياب الجمهور، وهي على أي حال تعكس مهارات لاعبين مجرد هواة.
أمعن الحسن الثاني في السؤال عن أشواط تلك المباريات التي كانت تجمع بوعبيد والمفضل لحلو، وزير السكنى، وعثمان السليماني، كاتب الدولة في الشؤون الاقتصادية، وإدريس البصري، كاتب الدولة في الداخلية، وقضاة ولاعبين قدامى. لكن بوعبيد احتفظ بأسرار تلك المقابلة، وانهزم فريقه في مواجهة الخصم الذي كان البصري من بين لاعبيه، من دون أن يفصح عما كان ينتظره.. سيما وأن الحسن الثاني لم يتحدث عن البصري بالاسم وإنما بالتلميح القابل لكل تأويل.
أعود إلى قضية العامل الطاهر أوعسو، ودائما حسب رواية البصري، فقد بحث الأخير عن جواب مقنع عن استفسار الملك الراحل، محوره أن الرجل لصق بسمعته طيف الجنرال محمد أوفقير، إن خطأ أم صوابا. فرد الحسن الثاني بشدة: «هل عندك مثله في الإدارة يجيد نصب الخيام ورعاية الاستقبالات الشعبية؟». أدرك البصري أنه وقع في المصيدة، ولم يخطر على باله اسم آخر، لأنه كان على يقين أن الحسن الثاني لا يهتم بالأشخاص أكثر من المسؤوليات التي تعهد إليهم.
لم يفهم إن كان القصد بنصب الخيام يشمل إجراءات إقامتها بسرعة في الساحات العمومية، مع جلب مرافق الماء والكهرباء من أبعد نقطة إليها، أم يطال الإعمار بمفهوم الخيام التي تشي بالأفراح والاستقرار. وراح في غضون ذلك يعظم بمزايا العامل الطاهر أوعسو الذي كشف أنه تعلم منه أشياء كثيرة في ساحة الميدان. وفي ذهنه أن الحسن الثاني لا يحبذ ارتخاء موظفي الإدارة الترابية في مكاتبهم وقلاعهم، بل يدعوهم إلى النزول إلى ساحة الميدان، حتى أنه قال للوزير الراشدي الغزواني إنه يضع رهن إشارته طائرة للتنقل إلى أبعد مكان عن العاصمة.
أشرت المقابلة إلى عودة الطاهر أوعسو، وبقي السؤال أي رجال السلطة أقرب إلى الواقع منهم إلى التنظير داخل المكاتب مكيفة الهواء.. وما الخيام إلا صورة مصغرة عن الواقع.