شوف تشوف

الرئيسيةتعليممجتمعمدن

أول مصاب بمتلازمة التوحد يحصل على الدكتوراه في المغرب

النعمان اليعلاوي

هو الاستثناء الوحيد الذي خرق القاعدة، استثناء لم تستطع إهانة وتنمر زملائه عليه وعدم تقبله من طرف الآخرين، أن تنال من عزيمته ورغبته في النجاح، وسلك طريقه يشقها كما تشق كاسحة الجليد نهرا حوّل القر مياهه إلى حجارة صلبة. فكريم بن عبد السلام، الشاب التوحدي الذي حصل، قبل أيام، على شهادة الدكتوراه من جامعة محمد الخامس بالرباط، استطاع أن يتجاوز كل الصعوبات ويكمل مساره الدراسي، ليكون بذلك أول شاب مغربي مصاب باضطراب التوحد يصل إلى سلك الدكتوراه، بل وينالها في سن مبكرة.

كريم هو المولود الأول لأسرة بن عبد السلام، مولود شاءت الأقدار أن يكون واحدا من آلاف المصابين بالتوحد في المغرب، لكن بمسار لامع مختلف عنهم، بل إن كريم حمل، في ما بعد، مشعل الدفاع عن قضية إدماج المصابين بمتلازمة التوحد.

يحكي محمد بن عبد السلام، والد  كريم، عن الفترة التي مر بها ابنه وهو يواجه نظرة المجتمع وزملائه إليه، وعن اللحظات الأولى التي اكتشف فيها إصابة ابنه بمتلازمة التوحد، مبرزا أنها كانت من أصعب الفترات التي عاشتها الأسرة في وسط لا يحمل  الكثير من المعرفة بشأن هذه المتلازمة ولا طرق التعامل مع الحاملين لها.

يحكي الوالد عن بداية اكتشاف إصابة ابنه بالتوحد، قائلا إنه «في سن الثالثة من عمره، لاحظنا أن كريم انطوائي ولا يتواصل بشكل سليم كباقي أقرانه ما اضطرنا إلى أخذه إلى أخصائي، حيث أخبرنا أنه مصاب بالتوحد»، مضيفا أن الخبر «كان صدمة لنا، إذ لم نسمع بهذا المرض من قبل، وبالتالي لم نكن نعلم كيف يجب أن نتعامل معه، غير أنني قررت ووالدته تحمل المسؤولية، وتقبل الواقع .

بداية مشرقة.. نبوغ منذ الصغر

كان دخول كريم إلى الروض الخطوة الأولى نحو اكتشاف الأسرة لإصابته بالتوحد، يقول والده إنه واجه صعوبة في التأقلم مع أقرانه في الروض، بل إن عددا من أولياء وآباء أولئك الأطفال رفضوا أن يكون كريم مع أبنائهم في الفصل نفسه، قبل أن يتوجه والداه لتسجيله بإحدى المؤسسات الخاصة بحي الرياض بالرباط، حيث أخبرتهما المشرفة على المؤسسة، وكانت بلجيكية، أن كريم مصاب بمتلازمة التوحد وأوصتهما بضرورة تتبع حالته من طرف طبيبة أطفال متخصصة.

حياة أسرة كريم انقلبت رأسا على عقب، حيث أصبحت رعايته والتكفل به محورها، منذ ولادته سنة 1990، «واجهنا صعوبات كثيرة معه، إذ كنا نضطر إلى إعادة الكلام أكثر من مرة حتى يتمكن من استيعابه»، يوضح الأب، مشيرا إلى أن ما زاد من صعوبة الوضع عدم تقبل المجتمع لهذه الفئة من المواطنين، «جميع المدارس الخاصة رفضت استقباله، باستثناء مؤسسة واحدة كانت المسؤولة عنها مواطنة بلجيكية، واحتضنته إلى سن الثالثة ابتدائي، غير أن هذه الأخيرة واجهت مجموعة من الضغوطات من طرف أولياء التلاميذ الذين رفضوا أن يدرس أبناؤهم مع شخص يعاني من اضطراب التوحد».

رفض أولياء التلاميذ لكريم جعل والد هذا الأخير يعيش في دوامة البحث عن مدرسة جديدة، حيث ظل يتنقل بين المدارس الخاصة إلى حين حصول ابنه على شهادة الدراسات الابتدائية، ومن ثم استقر به المقام، في ما بعد، بالمدرسة العمومية، وتابع دراسته الإعدادية والثانوية، وبرز نبوغه فيها، حيث عرف لدى أستاذته وأقرانه بقدرته الخارقة على الحفظ، وعشقه الكبير للقراءة والمطالعة، فكان ذلك التميز حافزا له أمام كل ما يعيق اندماجه في وسطه الدراسي.

المعاناة ذاتها كان يواجهها كريم، معاناة لم تكن مرادفة للمرض وحسب، بل كانت في رفض الآخرين له وعدم تقبلهم له، «جميع من شاركوني مقاعد الدراسة لم يتقبلوا فكرة أن يكون إلى جانبهم طفل مصاب بالتوحد، وكأن التعليم حق يخص فقط الأسوياء» يحكي كريم، مضيفا أنه في مرحلة التعليم الثانوي كان يتعرض للتنمر، غير أن «التوحد لم يكن يوما إعاقة بل هو حافزي للتميز في مساري العلمي»، يقول كريم، الذي رد الفضل كله في التميز الذي حققه بعد الله إلى والديه اللذين قال إنهما «قدما لي السند والعون، وكانا منارة في طريقي نحو العلم والمعرفة والتغلب على الصعاب التي واجهتني».

التوحد حافز وليس حاجزا

من رحم المعاناة يولد الإبداع والتميز، هكذا قال كريم، وهكذا عاش، حيث استطاع، بفضل دعم والديه ومحيطه العائلي، إلى جانب إصراره القوي على النجاح، أن يتحدى انطوائيته، «كنت متشبثا بقوة بمتابعة مساري الدراسي وسمو أهدافي في الحياة استطعت أن أحصل على شهادة الباكالوريا، الإجازة، الماستر، ثم الحصول على الدكتوراه»، يقول كريم، مردفا أن «هذا الإصرار والشغف يدفعاني إلى مواجهة الصعوبات، حتى في مجالات أخرى أعشقها كالموسيقى ونظم الشعر».

قال كريم: «إن التوحد ليس مرضا ولكنه اختلاف»، مضيفا أن الإعاقة ليست حاجزا ولكنها حافز لأصحاب الهمم لنيل المطالب الكبرى، وشدد على أن «التوحد حافز وليس حاجزا»، بل يجب أن تكون هناك عناصر مدعمة للتمكين من اندماج الشخص المصاب باضطراب التوحد في المجتمع. ويوضح كريم، البالغ من العمر (31 عاما)، أنه نال شهادة الدكتوراه في تخصص العقيدة والأديان السماوية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط في موضوع «دعوة المسيح بين الأناجيل والقرآن الكريم».

يعتبر كريم أن الإنسان المصاب باضطراب التوحد قادر على صناعة المستقبل ونيل الشهادات العلمية التي قد يعجز عن تحقيقها الأشخاص الذين ينعمون بكامل قواهم الصحية، وأن تجربته الشخصية يجب أن تمثل رسالة تحفيزية لجميع المصابين بالإعاقة وذوي الاحتياجات الخاصة ليركبوا التحدي ويقدموا دروسا جديدة في الصبر والإصرار، وتابع «أردت التخصص في مقارنة الأديان من أجل التأكيد على أن مقولة «صراع الأديان» مقولة فارغة لا تستند إلى أرضية علمية صلبة».

لكريم حنكة الدارسين ورهافة أحاسيس الفنانين، فقد برع في مجال الموسيقى التقليدية، خاصة الطرب الأندلسي والغرناطي وموسيقى السماع، وقال إنه «مولع بالموسيقى الأندلسية عموما؛ وهي ليست مجرد هواية بل هي روح الحياة»، مضيفا أنه تعلم بعض أسرارها من الصغر بمساعدة أفراد أسرته، ومشددا على أن «الطريق لم يكن مفروشا بالورود وأنه واجه صعوبات عدة في مراحل الدراسة الأولى»، مبينا أن الأمر تغير حينما حصل على شهادة الباكالوريا وانتقل إلى الدراسة الجامعية.

كريم.. الدكتور الفنان 

بعيدا عن المراجع العلمية، لكريم جانب فني من حياته الشخصية، ويحكي عن بدايته في المجال الفني واقتحامه له أنه التقى بالفنان نعمان لحلو واتفقا، باقتراح من والده، على إنتاج أغنية تتحدث عن معاناة المصابين باضطراب التوحد، وتم الاشتغال على أغنية كتب كلماتها سعيد متوكل، ولحنها نعمان لحلو، وقام بالتوزيع والتنفيذ يونس الخزان، وأخرج الفيديو كليب محسن أمان، وشارك فيه الممثل نبيل عطيف ومجموعة من أطفال التوحد.

يغني كريم بن عبد السلام بصوته القوي فيقول: «يا صديقي نعمان الاختلاف حق يصان، إن قضى ربي مضى قلبي إليه بلا جحود»، ويعتبر محمد، أب كريم، أن علاقة الأخير بالفن لم تولد مع هذه الأغنية، فهو بدأ الغناء منذ مدة طويلة، وكانت الأعراس والحفلات العامة المجال الذي يبرز فيها موهبته وقدراته الصوتية، بل إنه يهوى ويعشق الفن العتيق والطرب الأندلسي والأمداح النبوية،  فهو يتابع تكوينه «دراسته» حاليا في السنة السادسة بالمعهد الموسيقي ويعزف على آلة البيانو، ويميل لغناء التراث المغربي وخاصة المديح والسماع (الإنشاد الصوفي) والطرب الأندلسي.

يعتبر كريم أن من شأن الفن أن يحمل رسالة المصابين بالتوحد، بل إنه بالفن يمكن أن نساعد عشرات الأطفال المصابين بالتوحد ومعهم عائلاتهم والمجتمع من خلال التعريف والتحسيس بالمعاناة التي تواجههم، معتبرا أن رسالته تتجسد في الدفاع عن هذه الفئة وحمل همومها، وهو الأمر الذي دفعه إلى الانخراط بقوة في العمل الاجتماعي المرتبط بالتوعية باضطراب التوحد، ومساعدة  الأطفال المصابين به على الاندماج، لينال في هذا الباب جوائز تشجيعية في مناسبات عدة.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى