أموال الشعب في غير مأمن
وضعت مصداقية البرلمان في الميزان، إما أن تتحمل السلطة التنفيذية كامل مسؤولياتها في وقف هدر ونزيف المال العام، وإما أن تتحول المؤسسة التشريعية إلى مجرد كومبارس يردد ما شاء له من الانتقاد، بينما قافلة النهب والاستهتار وجوقة المستفيدين من غياب الرقابة تسير.
مناسبة الكلام ما فجره النائب البرلماني الزميل عبد الله البقالي، في اجتماع لجنة نيابية حول تجاوزات التدبير في المركز السينمائي المغربي، إلى درجة منح أحد المخرجين مبلغ 30 مليون درهم دون إنجاز ما كان مطلوبا منه. فهذه القضية يمكن اعتبارها فضيحة العقد، من طرف مؤسسة يفترض أنها مؤتمنة على صرف أموال تؤخذ من دافعي الضرائب، بمبرر دعم الإنتاج السينمائي. ولو حدث هذا في أي بلد يحترم تقاليد التدبير والحكامة والشفافية، لبادر المسؤولون عن هذه الفضيحة إلى تقديم استقالاتهم ومواجهة القضاء، لأن الأمر يتعلق باختلالات لا تحتمل التأويل.
وإذ يقر وزير الاتصال بأن المسألة ستحال على القضاء للتحقيق في ملابساتها، يطرح السؤال هل إن الإحالة سبقت إثارة الملف نيابيا، أم أنها جاءت في أعقاب الجدل الذي أثير حول هذه الاختلالات؟ لكن الأهم، ومن دون استباق مسار الملف أخلاقيا وقضائيا، أن هناك ثغرات ينفذ منها العابثون بالمال العام. وبالتالي يتعين استقصاء مواطن هذه الثغرات، هل هي نتاج إجراءات تنقصها الشفافية، أم أنها مجرد شجرة تحجب ما دونها من غابة تسمح بهدر المال العام بهذه الطريقة؟ وكيف لأي مخرج أو منتج أن يتمكن من الاستحواذ على مبلغ مالي كبير أو صغير، من دون أن يتعرض للملاحقة؟ ثم لماذا لم يبادر المركز السينمائي إلى اتخاذ ما كان يجب من إجراءات لاسترداد المال العام؟
إحالة الملف على القضاء لا تعفي من طرح الأسئلة الحارقة حول مآل ما يوضع تحت تصرف المركز السينمائي من أموال لتشجيع الإنتاج السينمائي. فالمسألة في جوهرها لا تتعلق بالاستفادة من أموال دون إنجاز ما صرفت من أجله، لأن ذلك يمكن أن يحدث لسبب أو لآخر، وإنما تخص مظاهر التواطؤ في صون المال العام من الهدر. ولولا وجود منافذ تشجع بعض المستهترين بالقانون والمبادئ وأصول الحكامة، لما تمكن أي متلاعب من القيام بما يعاقب عليه القانون.
الأصل في خطة دعم الإنتاج السينمائي أنها تتوخى تشجيع الإبداع والترويج له، بالنظر إلى الكلفة الباهظة لمتطلبات الإنتاج السينمائي. وإذا كانت المهمة أوكلت إلى مؤسسة رسمية، فإن ذلك يرتبط بمنظور لماهية الإنتاج الذي يتعين تشجيعه، علما أن الصناعة السينمائية تقوم بها مؤسسات وشركات خاصة. وإذا كان الواقع السينمائي في المغرب لا يتوفر على البنيات التي تكفل قيام شركات القطاع الخاص بهذه المهمة، فإن ذلك لا يعني رهن الأعمال السينمائية لمبادرات لا تتوخى غير الربح واستغلال المال العام، لأن مفهوم المنفعة العامة يناقض أي انحراف في هدر إمكانات الدولة لفائدة أي كان. وإلا فإننا سنصبح أمام تغول شركات وأسماء يفعلون ما يريدون بلا حسيب ولا رقيب.
الأكيد أن رصد البرلمان لأداء مؤسسات عمومية يبقى من صميم اختصاصاته في رقابة العمل الحكومي. وإذا كان مفهوما أن الحاجة إلى وزارة وصية على قطاع الإعلام الرسمي، يتطلبها إقرار الموازنة ذي الصلة ووجود محاور رسمي، فإن طرائق صرف المال العام يجب أن تكون أهم محور في الرقابة النيابية، خصوصا في ضوء ورود أرقام خيالية عن إنتاجات لا تؤدي مهمة الخدمة العمومية والمنفعة العامة. وإذا كانت وزارة الاتصال تقر بأنه لا يمكنها أن تتدخل في التدبير اليومي للقطاعات التابعة لها، من حيث احترام الممارسة المهنية التي لها حدودها وضوابطها، فلا أقل من أن يكون دورها في حماية المال العام واضحا لا غبار عليه.
أبانت التجربة، كما تؤكد ذلك تقارير المجلس الأعلى للحسابات أن اختلالات التدبير تزيد فداحة. وبالتالي فمن حق الرأي العام أن يطالب بإعادة النظر في مخططات دعم الإنتاج السينمائي، استنادا إلى كونها لم تفلح في الوصول إلى الأهداف المنشودة. ففي أي تجارب لا توضع الشيكات على بياض، بل ترتبط ببرامج وآليات وأهداف، فقد لا تظهر النتائج في أربع أو خمس سنوات، لكن الأهداف المرسومة تبقى قابلة للتقييم عند كل مرحلة. كأن يتم جرد تجربة المركز السينمائي في دعم الإنتاج السينمائي لفترة خمس سنوات مثلا، يتم بعدها التعرف على جوانب النجاح والإخفاق. كما أن آليات تنصيب لجان مختصة مرة كل عامين أو أكثر لا تبدو ناجحة بالقدر الكافي، لأن منطق المتابعة والرصد يقتضي تتبع عمليات الدعم من بدايتها إلى نهايتها، فضلا عن احتساب مدى التأثير في أوساط الرأي العام، مادام صرف المال العام له غاية محددة، على مستوى ترفيع الذوق وإقامة صناعة سينمائية قوية.
إن الاكتفاء بمنح اعتمادات مالية ليس سياسة مقنعة، بدليل حدوث ثغرات في صرفه، كما أبانت عن ذلك مناقشة اللجنة النيابية لمجلس النواب. لا ضير في التفكير في طريقة أنجع لتحقيق أهداف الإقلاع السينمائي، فالمال وحده لا يصنع السينما، بل الفكر والإبداع وتشجيع منافسات الكفاءات. وإذ يبدو جليا أن التجربة آلت إلى ما يشبه الاحتكار، فلا أقل من إعادة النظر في أسلوبها ومضمونها، أقله لتكريس الشفافية والحكامة، وكل عام وأموال الشعب في غير مأمن.