أمة أخفقت في السياسة وانتصرت في اللغة 1
يتناول هذا الكتاب سيرة أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد، أبو الفضل، الأديب الذي أبهرت كتاباته معاصريه، حتى اشتهر ببديع الزمان الهمذاني. انتشرت مقاماته على نطاق واسع وحظيت باهتمام كبير بين الكتاب والنقاد، إلى درجة أنها ما زالت مجالا للدراسة والبحث الجامعيين.
ولئن كان نبوغ بديع الزمان الهمذاني قد أثار إعجاب مجايليه من الأدباء والكتاب والشعراء، فإن ظروف نشأته وأوضاع عصره ظلت إلى يومنا هذا مجالا للبحث والتنقيب. كتاب بديع الزمان لمارون عبود، واحد من المؤلفات التي تتناول بالنقد والدراسة أدب البديع وتسلط الضوء، متحررة من المصنفات التي أحاطته بهالة من الإعجاز والتبجيل، على جوانب كثيرة من عصره.
سُئل أحد الساسة الأتراك: متى ابتدأت انكسارات الدولة العثمانية؟ فأجاب: منذ أول انتصار. ثم فسر جوابه هذا بقوله: لأنها لم تفرض لغتها على المغلوبين.
أما الدول العربية فهي بالعكس، أخفقت في السياسة والحكم، وبفضل القرآن الكريم انتصرت في الدين واللغة انتصارا لا مثيل له في تواريخ الأمم والشعوب، ما شبَّت الدولة عن الطوق حتى دبَّ الاضطراب إلى سياستها، فمنذ بيعة أبي بكر أبدت الفتنة أذنيها، وكان في كل عهد مرتدون، وثوار، وخوارج، فلا يخمد السلطان النار في جهة حتى تضطرم في ناحية أخرى، وحسبك أن الخلفاء الراشدين الصالحين الأربعة لم يمت أحد منهم حتف أنفه غير أبي بكر الصديق. ثم لم تخضع الديار الإسلامية كلها لسلطان واحد، إلا في زمن الأمويين.
ولما حم القضاء عليهم وهزم مروان الجعدي، وآل الملك إلى بني العباس نبتت على الأثر دولة أموية جديدة في الأندلس، تركت في العالم القديم مآثر عزَّ نظيرها حضارة وعلما وعمرانا، حتى قال أحد المؤرخين الغربيين في عبد الرحمن الناصر: إنه ملك يصلح لسياسة أعظم دولة في القرن العشرين.
والرشيد الذي قال للغمامة: أمطري حيث شئت فإن خراجك يأتيني، لم يسلم عهده الذهبي من تفسخ. ففي زمن ولايته أنشأ العلويون دولة جديدة في المغرب الأقصى عرفت بالدولة الإدريسية. وأراد هارون أن يتقي شرها، على بعد المزار، فعمل ما تعمله الدول اليوم، فأنشأ إمارة بني الأغلب في أفريقية. وعلى خطة الرشيد درج ابنه، المأمون، فأقطع قائده طاهر بن الحسين خراسان، فكانت إمارة بني طاهر التي دامت زهاء خمسين سنة وأكثر.
ثم أخذ الضعف يدب في جسم الدولة رويدا رويدا، فنشأت دول أكبر وأخطر، فكانت الدولة الصفارية في فارس، ثم السامانية التي أزاحتها عن تخومها واستولت على فارس وما وراء النهر، وظهرت الدولة الزيارية في جرجان، ثم كانت الدولة البويهية التي لم تكتف بفارس، بل بسطت سلطانها على العراق أيضا، وغلبت الخليفة على أمره حتى لم يبق له من الملك إلا الاسم، بل شاركه بعضهم في خطبة الجمعة.
هذا ما آلت إليه الدولة العباسية في القرن الرابع، الذي هو قرن المقامات والنثر المنمق. كان الخليفة في هذا العصر يؤمر فيطيع، ولم يعد له من رقعة الدولة الواسعة غير بغداد، بل بغداد نفسها كانت معرضة دائما لغارات هؤلاء الملوك الذين استقل كل واحد منهم بمقاطعة، بل بالعاصمة نفسها، وحجر على الخليفة وعين له مبلغا من المال لنفقته.
ومن طالع التواريخ رأى أن أعمار الخلفاء لم تبق بيد الله كما نقول، صارت بيد خدامهم، فهم الذين يعزلون خليفة ويولون آخر، ومن عصى فالعصا. ففي أثناء أربعة عشر عاما، من سنة 320ـ 334، نصبوا وعزلوا سبعة خلفاء، منهم من قُتل، ومنهم من سُملت عيناه، ومنهم من قُتل صبرا.
وحاول القاهر بالله، أحد خلفاء هذا القرن، أن يعيد الخلافة جذعة، فضيقوا عليه وحاصروه في دار الخلافة وفتشوا الداخل عليه والخارج من عنده، حتى أدخل أحمد بن زيرك الذي جُعل على حراسته يده في اللبن المحمول إلى الخليفة لئلا يكون فيه رقعة.
ولما عرف القاهر أنهم عازمون على خلعه تغدى بهم قبل أن يتعشوا به. «ذبح علي بن بليق ووضع رأسه في طشت. ثم مشى، والطشت أمامه، حتى دخل على والده بليق أبي علي فوضع الطشت بين يديه، وفيه رأس ابنه، فلما رآه بكى. ثم أمر بذبح بليق، فذُبح ووضع رأسه في الطشت. وحمل الطشت أمام القاهر ومشى حتى دخل على مؤنس. فوضع الرأسين أمامه. فلما رآهما مؤنس تشهد. ثم أمر بذبح مؤنس فذبحوه وجعلوا رأسه في طشت. وأمر فطيف بالرؤوس الثلاث في جانبي بغداد، ونودي: هذا جزاء من يخون الإمام ويسعى في فساد دولته».
ولكن كل هذا الإرهاب والتمثيل لم يحل دون خلعه، فما دامت خلافته إلا سنة وسبعة أشهر، وهو أول من سملت عيناه من الخلفاء. ويقال: إنه كان يستعطي في آخر أيامه.
وكثيرا ما صاروا في هذا العصر يصفون مال الخليفة ويتركونه صفر اليدين. وأخيرا صار الحكم فريسة القوي المستأسد، فكل من رأى في نفسه قوة استبد بمقاطعة وأقام نفسه ملكا عليها. كان لقب «الحضرة» مختصا ببغداد، أما في هذا القرن الذي نلم بفذلكة من تاريخه السياسي، فأصبح في كل بلد «حضرات» وكثرت الألقاب، فمن يمين الدولة إلى عضدها، ومن ملك الملوك إلى الشاه والشار، إلى السلطان، فصح فيها ما قيل في الأندلس:
ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخا صورة الأسد.
ولا عجب أن سمى المتنبي هذه الحقبة من الزمن دولة الخدم، فأكثر هؤلاء كانوا خداما واستحالوا قوادا، ثم صاروا ملوكا. فأصدق وصف للمملكة العربية في هذا القرن، هو ما قاله فيها أبو الطيب ابن ذلك القرن:
بكل أرض وطئتُها أمم ترعى بعيد كأنها غنم
يستخشن الخز حين يلمسه وكان يبرى بظفره القلم
وإنما الناس بالملوك وما تفلح عرب ملوكها عجم
لا أدب عندهم ولا حسب ولا عهود لهم ولا ذمم.
وقال أيضا في هؤلاء معللا نفسه بإحدى الممالك مثلهم:
لأتركن وجوه الخيل ساهمة والحب أقوم من ساق على قدم
بكل منصلت ما زال منتظري حتى أدلت له من دولة الخدم.
ولماذا لا يعلل نفسه بالسلطان عبقري كالمتنبي، بعدما رأى الثورات تلي الثورات والغزوات تلي الغزوات، خليفة يقتل ليولى غيره ولاية اسمية. أما الفعل والسلطان ففي يد من وصفهم المتنبي. كان الخلفاء قابعين في قصورهم يتلمسون رؤوسهم كل مساء وكل صباح ليروا، ألا تزال في مواضعها، أم أطاح بها أحد مواليهم وخدامهم. وكما كانت الدولة مقسمة في العراق وفارس كقطع الشطرنج، كذلك كان الأمر في جميع الأقطار، فهنا ملك الحمدانيين وهناك ملك الإخشيديين إلى آخر ما هنالك من ضروب التوزيع.
ففي هذا العصر امتدت الأيدي إلى الخلفاء، فهانت على الفرس والترك معاطسهم وسبالهم. وبعد سكنى القصور التي وصفها ابن الخطيب البغدادي وصفا كأنه الكذب، صار الخليفة كواحد من الناس، مصيره في يد البويهيين والترك، يتقاتلون في عاصمته ولا يعنيه من الأمر إلا أن يلقب المتغلب باللقب الذي يقترحه حتى ضربت السكة باسم بعض هؤلاء. وهكذا أمسى الخلفاء كما قال الأخطل في بني يربوع قوم جرير:
مخلفون ويقضي الناس أمرهم وهم بغيب، وفي عمياء ما شعروا.
أما تاريخ مصير الخلافة فيلخص بما يلي: كلما قوي واحد في هذا العصر عنا له الخليفة وخلع عليه. لقب محمد بن طغج بالإخشيد، أي ملك الملوك، ولقب بعده ابن رائق بأمير الأمراء وأمر أن يخطب له على المنابر، ثم فاض نهر الألقاب حتى صار أخيرا كل أمير مستقل يلقب نفسه، ومن يسأل عن خليفة أعزل، لا مال ولا رجال! أما هؤلاء الأمراء والملوك، أو السلاطين المستقلون فكثيرا ما كانوا يذهبون ضحايا بعضهم بعضا، ومن عزَّ بزَّ. كما أن الخلفاء أمسوا يحبسون ويقتلون صبرا كما فعل معز الدولة بالمستكفي.
وأخيرا، صار أمر الخلافة في أدنى الدركات فسلبوهم كل سلطانهم، ولم يتركوا للخليفة وزيرا، ما بقي له غير كاتب يدير أملاكه.
ومن يستغرب ـ بعد هذا ـ قول المتنبي لسيف الدولة.
ويا عجبا من دائل أنت سيفه أما يتوقى شفرتي ما تقلدا
ومن جعل الضرغام للصيده بازه تصيده الضرغام في ما تصيدا.
وينبئنا التاريخ أن سيف الدولة حاول امتلاك بغداد ولكنه لم يفلح، فعاد إلى مستقره وأنشأ «حضرة» تضاهي حضرة بغداد في أيام عز الخلافة.
حقا إننا في عصر صار كله «حضرات» كما قلنا، وصح في حكامه قول الشاعر في الأندلس:
وتفرقوا شيعا فكل قبيلة منها أمير المؤمنين ومنبر.
أما أشهر هذه الدويلات وأزهرها فكانت دولة السامانيين والبويهيين. كان كل هؤلاء الملوك، أو أشباه الملوك، يقلدون الخلفاء القدامى، لا خلفاء عصرهم الذين أمسوا نكرات، ويطمعون بأن يزينوا «حضراتهم» بالشعراء والكتاب والعلماء، وكل منهم ينافس الآخر. أما رووا أن عضد الدولة أرسل إلى المتنبي من يسأله: من أجزل عطاء أسيف الدولة، أم عضد الدولة؟
وآخر من يعنينا أمره في الربع الأخير من هذا القرن، هو الناصر لدين الله أبو القاسم محمود بن سبكتكين الذي قضى على الدولة السامانية، ثم غزا الهند غزوات كثيرة وامتلك أكثرها. وما سبكتكين هذا إلا واحد من غلمان أبي إسحاق البتكين، قائد جيش غزنة في الدولة السامانية. ولي العسكر لما مات مولاه القائد واستقل بالملك. ولما مات قام بعده ابنه محمود، كان لقبه أولا، يمين الدولة، فأبدل به لقب السلطان حين استبد بالأمر، فكان أول من لقب بالسلطان في الإسلام، ثم عظم أمره واستولى على خراسان وقطع منها خطبة السامانيين، وقرض دولتهم.