شوف تشوف

شوف تشوف

أفول الأنوار

لم يعرف الفرنسيون الأصليون حقيقة عنف قوات الأمن الذي كان يتحدث عنه فرنسيو الضواحي المنحدرون من أصول إفريقية وشمال إفريقية إلا عندما ولدت حركة السترات الصفراء فأطلقت الدولة ضدهم قوات أمنها لكي تذيقهم أصناف العنف الذي كانوا فقط يسمعون عنه. فمن المتظاهرين من فقد عينه ومنهم من فقد يده وملامح وجهه. والحصيلة كانت ثقيلة: 11 قتيلا و2500 جريح. كلهم فرنسيون غاليون أصليون أبا عن جد.
في الإعلام فتح نقاش حول العنف المبالغ فيه لقوات الأمن انتهى بإحالة بعضهم على القضاء أبرزها بسبب ممارسة العنف ضد مواطن ملون في عقر بيته وتزوير محضر بغاية إرساله إلى السجن، لولا أن كاميرا منزله صورت كل شيء.
هناك العنصرية البدائية الفطرية التي يتربى عليها الأشخاص منذ الطفولة في البيت والشارع والمدرسة، والتي توجد في كل المجتمعات بدرجات متفاوتة، وهناك العنصرية المؤسساتية التي تكون ناتجة عن سياسة الدولة. في فرنسا هناك الاثنتان معًا. وأكبر تجسيد لهما هو قانون الأمن الشامل الذي أشعل شوارع فرنسا مجددا.
ولذلك فالبعض يقارن بين أسباب المواجهات التي تحدث في المدن الأمريكية بين الأمريكيين خصوصا السود وبين الشرطة، وبين ما يحدث في فرنسا من عنف بوليسي ممارس على أبناء المهاجرين الذين يستوطنون الأحياء الهامشية.
أولًا لنتفق أن أصل المشكل في أمريكا وفرنسا واحد وهو العنصرية. في أمريكا البيضاء، أو جزء كبير منها، يعتبرون عبودية السود خطيئة النشأة بالنسبة للمجتمع الأمريكي، ولا أحد من الجانبين سواء الذين كان أجدادهم سادة أو الذين كان أجدادهم عبيدا سوف ينسى هذه الخطيئة، بل كل ما يمكنهم فعله هو التعايش معها.
في فرنسا هناك أيضا مشكل تاريخ مبني على العبودية، فأجداد أبناء الضواحي من الأمازيغ والعرب والأفارقة تم استقدامهم جماعيًا وعلى امتداد سنوات من مستعمرات فرنسا لكي يشتغلوا في المناجم ويحفروا أنفاق الميترو ويضعوا خطوط السكك الحديدية ويشيدوا القناطر والطرق، وأيضا لكي يحاربوا إلى جانب الجيش الفرنسي في حروب توسعية لا تعنيهم وليست لديهم أية عداوات مع شعوبها.
عندما أرسلت فرنسا مبعوثيها لكي يتفقدوا أيدي وأسنان مئات الآلاف من الأفارقة والعرب والأمازيغ لشحنهم نحو موانئ فرنسا من أجل استعبادهم في مناجمها وحقولها وحروبها وأوراشها لم توطنهم في المدن بل أسكنتهم في أحياء خارج المدن تشبه الغيتوهات، مثل غيتوهات السود في أمريكا، وحرمتهم من أبسط حقوق العيش الكريم. أحفاد هؤلاء المهجرين من بلدان إفريقيا هم الذين يصرخون اليوم في الشوارع احتجاجًا على القمع والعنف الذي تمارسه ضدهم المؤسسة الأمنية الفرنسية.
ومثلما تم احتقار وتهميش أجدادهم فإنهم أيضا بسبب ألوان بشرتهم وأسمائهم التي تثير الريبة يتعرضون للإقصاء في الشغل ويعيشون العنصرية في الشارع ويتعرضون للإهانة من طرف رجال الأمن الذين يتفحصون هوياتهم دون غيرهم رغم أنهم فرنسيون من الجيل الثالث.
وحسب تحقيقات صحفية أجرتها مؤسسات إعلامية محترمة فإن إرسال فرنسي من أصل عربي أمازيغي أو إفريقي سيرة ذاتية تتضمن اسمه كاف لكي يتم إقصاؤه لصالح سيرة ذاتية تحمل اسما فرنسيا خالصا.
الحالة الوحيدة التي يسمحون فيها لأجانب من هذه الأصول باحتلال وظائف خاصة بالفرنسيين ذوي العرق الخالص هي المهن التي لديهم فيها خصاص حيوي كالطب والهندسة المعلوماتية والذكاء الاصطناعي والصناعات الدقيقة والبحث العلمي وغيرها من التخصصات بالغة الدقة والأهمية.
أما البقية، وهم الغالبية الساحقة، فمكانهم الطبيعي هو أحياء الضواحي المبنية على شكل مؤسسات سجنية يعيش أغلبها تحت سيطرة التيارات الدينية المتطرفة وعصابات المخدرات والمنحرفين. إلى درجة أن هناك إحصاء رسميًا صدر يضع لائحة بأسماء أحياء في الضواحي ممنوع دخولها على رجال الأمن.
وإذا كانت أمريكا لديها مشكل عنصرية البيض المسيحيين ضد السود المسيحيين، وبدرجة أخرى عنصرية مضادة يمارسها السود ضد البيض مع فرق في الإمكانيات والوسائل والأثر، فإن العنصرية في فرنسا فيها عنصرية الفرنسيين البيض المسيحيين ضد الفرنسيين المسلمين من أصل أمازيغي وعربي وإفريقي.
بمعنى آخر، الصراع في أمريكا قائم بين أعراق تدين بنفس الديانة، فيما في فرنسا وأوروبا الصراع قائم بين السكان الأصليين المسيحيين وبين أبناء المهاجرين الأوائل المسلمين في الغالب، إذ هناك ما بين خمسة وستة ملايين مسلم في فرنسا.
من أجل التصدي لما يسمونه “الزحف الأخضر”، أنشأت فرنسا مؤسسة “إسلام فرنسا” ووضعت على رأسها مسيحيا هو جون بيير شوفينمان وزير الداخلية السابق، وهذه المؤسسة هي بمثابة الكليرجي، أو الإكليروس، ولكي يذروا الرماد في العيون عينوا فيها الطاهر بنجلون كعضو بمرسوم رئاسي، وكتبت لوفيغارو مبتهجة أن الطاهر لم يعد يصلي صلواته الخمس منذ مدة، مع أنه في الإسلام ليست هناك وساطات بين المسلم وربه، إذ لا رهبانية في الإسلام.
هل هي مصادفة، إذن، أن تتزامن كل هذه النكبات على مسلمي أوروبا في هذه الظروف الاقتصادية الصعبة التي تعيشها القارة العجوز بفعل تداعيات الجائحة؟
ليس هناك مكان للصدفة، كل شيء مخطط له بإحكام شديد، فالقرن الواحد والعشرون، كما تنبأ له بذلك أندريه مالرو، سيكون دينيا أو لا يكون.
لكن هذه الحرب، الخفية تارة والمعلنة تارة أخرى، ضد الوجود الإسلامي في أوروبا والغرب عموما، تأخذ أشكالا «ديمقراطية» و«قانونية» حتى لا يظهر العالم الحر والمتقدم عاريا على حقيقته، فتتحطم الصورة المثالية التي يريد تقديمها عن نفسه كمجتمع يعطي الدروس حول الأخلاق والمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان الفردية والجماعية لدول العالم الثالث وبلدان العالم «المتوحش».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى