أفكار لأزمنة الحروب
بقلم: خالص جلبي
تبادل (فرويد) و(أينشتاين) مجموعة من الرسائل في ظل الحرب الكونية، بعنوان «أفكار لأزمنة الحروب» وهي تنفع لفترة الجنون التي نعيشها. ويرى فرويد أن الإنسان تتنازعه غريزتان: الليبيدو والتانتوس وهي الحياة والموت، أو اللذة والجنس مقابل العدم والفناء. وتوصل عالم الأعصاب (مك لين) إلى اكتشاف مثير في تركيب دماغ الإنسان، أشار إليه (فيكتور فيرنر) في كتابه «الخوف الكبير»، أن الدماغ الإنساني في الواقع مكون من ثلاثة أدمغة مركبة فوق بعضها البعض، طبقا عن طبق، ففي الأسفل دماغ الزواحف، وفي الأوسط دماغ الثدييات، وفي الأعلى الدماغ الجديد. واكتشف أن هذه الأدمغة الثلاثة تشكلت في وقت متتابع متعاقب عبر الرحلة التطورية للدماغ الإنساني، من سلالة من طين، وأن الدماغ الواعي لم يتكون إلا منذ نصف مليون سنة، مقابل الأدمغة الحيوية الحيوانية التي تحافظ على الوجود، والتي تشكلت منذ أكثر من 100 مليون سنة. وهذه الأدمغة الثلاثة تتكلم بثلاث لغات مختلفة، بدون ترجمان بينها، وقد يفسر التركيب البيولوجي جنون الإنسان في الحرب. وفي كتاب «الذكاء العاطفي» لــ(دانييل جولمان) شرح لـ«دورة المخ العاطفية» مثل الدورة الدموية، ويروي قصة قتل العاملات، حين دخل شقي بيت امرأتين في الحي الراقي الشرقي من نيويورك، وفتك بمدرسة ومذيعة برامج بعد تقييدهما، بالخبط على الرأس بعقب زجاجة. ذلك عندما استولى عليه الرعب، أن يكتشف أمره، ولم يكن من مبرر للقتل، وما زال الرجل يتذكر فعلته، ويتعجب كيف حدث ما حدث، ولكن أمامه تمضية بقية حياته في السجن بدون إطلاق مشروط. وحسب عالم النفس السلوكي (سكينر)، في كتابه «ما خلف الحرية والكرامة»، أن الأفكار هي أرضية الحروب. وحسب المفكر الجزائري (مالك بن نبي)، فإن الأفكار تلعب دور (الوحدات) كما في الأمراض بين جرثوم وفيروس. وفي علم الاجتماع يشير (علي الوردي)، عالم الاجتماع العراقي، في مجلده الأول من موسوعته حول التاريخ العراقي الحديث، إلى أن ولادة الدولة قبل ستة آلاف سنة، كانت ضرورة لولادة الحضارة، حتى يعيش الإنسان في (أمن)، حين فصلت الدولة في المنازعات بين الأفراد بالقوة إذا تطلب الأمر، فاحتكرت كل العنف، ولم يحصل ذلك بين الدول. وهي المسألة التي بنى عليها (تولستوي) مذهبه، الذي أطلق عليه «الفوضوية» وهو ليس كذلك، بل مجتمع المحبة والأخوة بين الأنام، وتحرير الإنسان من كل صنوف العنف والقوة. وفي يوم تلقى (تولستوي) رسالة عاصفة من مجهول، وكان يترنح في سن الشيخوخة، يقول فيها صاحبها: «كلا يا ليون لست معك في أن العلاقات بين الناس يمكن أن تصفو بالمحبة وحدها. إن من يقولون بذلك ليسوا إلا رجالا مترفين طعامهم في متناول أيديهم، ولكن ماذا تقول في أولئك الذين ما عرفوا غير الجوع منذ نعومة أظفارهم، والذين يئنون طوال حياتهم تحت نير الطغاة؟
إنهم سيناضلون ويجاهدون للخلاص من عبوديتهم. إني أقولها صريحة في وجهك وأنت على حافة قبرك يا ليون نيكولافيتش: سيغرق العالم في أمواج من الدم، وسيتم مرة على مرة إعدام الأسياد وإبادتهم نساء ورجالا، بل سيتم إعدام أولادهم كذلك، حتى تنجو الأرض إلى الأبد من شرورهم المخيفة. وأنا آسف أنك لن تكون على قيد الحياة حينذاك حتى تكون شاهد عيان على ضلالاتك. أتمنى لك نهاية هادئة مريحة». ويعلق (ستيفان زيفايغ) في كتابه عن «ليون تولستوي»، أنه منذ تلك اللحظة أدرك تولستوي أن مذهبه لا يزيد على سراب وحلقة دخان، وأن البشر يحكمهم قانون التدافع والعصبية، كما قرر ذلك (ابن خلدون) في مقدمته حتى إشعار آخر.
وبهذا البناء من الأفكار قد نقترب من فهم ظاهرة الحرب المحيرة، التي فتكت بالبشر أكثر من كل الأمراض والطواعين والفيروسات مجتمعة. واعتبرها (هيروقليطس) أنها أبو التاريخ، فهي التي ترفع أقواما وتضع آخرين، وهي التي تدفع قوما إلى سدة السيادة، وآخرين إلى وهدة العبودية. وبمزج التركيب (البيولوجي – الاجتماعي – والثقافة) يمكن الاقتراب من فهم ظاهرة الحرب، ولماذا تندلع، كما كنا شهودا في صيف 2006م والحرب في جنوب لبنان تحصد العباد والبلاد، ثم تتالت عام 2008 حتى صيف عام 2021 والحبل على الجرار. مع هذا فإن التطور التاريخي يدفع الجنس البشري حاليا إلى لجم غول الدولة، وهكذا برز نموذج الاتحاد الأوروبي كشكل واعد لمؤسسات سياسية لا تعتمد الحرب في دمج الناس في وحدة. كما أن الثقافة والتكنولوجيا قربتا من تأسيس السلام على نحو غير متوقع، استجابة لدعوة الأنبياء في ترسيخ السلام في المجتمع، وبين الدول، والسعادة في القلوب. ومفاهيم ومؤسسات السلام تكسب مواقع باستمرار، مع ظهور فشل جيوش العنفيين في حل المشاكل. وحين توقف قرع طبول الحرب في لبنان، بعد أن شبعوا من شرب الدم، فهو نموذج لسخف الحرب وجنون الجنرالات الذين لا يحجزون خلف القضبان؛ بل يقودون الأمم إلى الهاوية والدموع. كما أن العلم ساهم في تأسيس السلم على نحو مفاجئ لمن طور أسلحة الدمار الشامل، ولولا وصول البشر إلى الوقود النووي، في قمة من التسلح، تنذر بفناء الجنس البشري، وحرب عبثية لم تعد بالأرباح، لاستمر المجانين في لعبة القوة والإفلاس الأخلاقي. ولولا قنبلة هيروشيما وحريق ناغازاكي ما تردد الجنرالات المعتوهون في متابعة شن الحروب، وجعل البشر وقودا لها والحجارة. وهكذا فمن ثلاث زوايا ولدت الحرب، وبها ستنتهي: البيولوجيا وعلم الاجتماع وتطور الأسلحة علميا، ومن هذه الزوايا الميتة جاءت الحياة، وسبحان مخرج الحي من الميت فأنى تؤفكون. وهكذا ماتت مؤسسة الحرب غير مأسوف عليها، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. وفي الغابة يعرف علماء الحيوان أن الغوريلات لا تتقاتل كثيرا، وهي الثقيلة المخيفة، ومن يتقاتل كثيرا هم القردة الصغار من الشمبانزي والبابون، كما هو الحال بين أوروبا وأمريكا، أو إريتريا والحبشة أو جيش الحشد الشعبي وداعش في الموصل.