أسلوب القتل من أين جاء؟
بقلم: خالص جلبي
كل حدث يقع هو في علاقة جدلية ضمن سلسلة الأحداث فهو نتيجة لما قبله، وهو في الوقت نفسه سبب لما سيأتي بعده، وهكذا تتلاحق السلاسل وتتصل ببعضها البعض؛ فلا توجد حادثة واقفة في الهواء لوحدها، كما لا يوجد حصاة أو حجر ليس له مكان في تشكيل الجبل العظيم؛ لأنه يحمل الأحجار التي فوقه؛ في الحين الذي تقف فيه على الحجر الذي تحتها. ونحن حين نقف على أقدامنا فهي تحمل جسدنا، ولكن الأرض التي تحتها تحمل هذه الأقدام بدورها، وهكذا تترابط علاقات الحياة؛ لذا فإن الحديث يشير إلى جريمة ابن آدم الأول، كما جاء في الرواية أنه (من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة). والمبدأ القرآني ينص على أن لا تزر وازرة وزر أخرى، ولا يسأل الإنسان إلا عما باشر وفعل، إلا أن الأثر غير المباشر هو انتقال هذه الفكرة إلى البشر الآخرين، ذلك أن عدوى الأفكار قائمة مثل الجراثيم، ولقد اعتبر المفكر الجزائري (مالك بن نبي) أن الأفكار هي بمثابة الجراثيم الاجتماعية، فإذا كانت البيولوجيا والأمراض تعمل بآلية انتقال الجراثيم، فإن الأمراض الاجتماعية تنتقل بواسطة الأفكار التي هي النموذج الجديد للجراثيم النوعية، وكما أن البيولوجيا فيها الجراثيم التي لا غنى عنها لتوازن الوسط الحيوي، كذلك كانت الجراثيم الممرضة التي تفتك، وهذا تمثيل للجراثيم الموجبة والسالبة.
إذن في ضوء فكرة من هذا النوع يمكن فهم (آليات صراع ولدي آدم)، التي هي صور الصراع البشري الأولى، والتي ما زالت تكرر نفسها في صور شتى، سواء في صورة صراع شخصين ينتسبان للمهنة نفسها، أو صور الحروب الرهيبة بين الدول، لأن صورة الصراع الأولى البسيطة هي بذرة الصراع المروع الأخير.
إن هذه الآيات التي سلطنا الضوء عليها تعتبر من آخر ما نزل من القرآن (قصة ولدي آدم من سورة «المائدة»، والتهديد بالقتل من أحدهما للآخر)، ومن الغريب أنه لم يسلط الضوء عليها كي تفهم في ضوء الصورة العامة (البانوراما) لنظر القرآن للمشاكل وكيفية حلها. لذا وجب أن توضع هذه الآية في مفهوم (طريقة مبتكرة جديدة لحل المشاكل)، وهي طريقة مفتوحة عبر التاريخ يستطيع البشر استخدامها أو الوصول إلى مستواها من خلال (التربية)، وهي مفتاح حل مشاكل النزاعات البشرية لو أمكن تطبيقها.
ومن خلال عدة مبادئ متفرعة من المبدأ الرئيسي نقول:
1ـ المبدأ (الأول): يستمر الصراع إلى مداه الأقصى طالما صمم الطرفان على النزاع، لأن النزاع يتطلب طرفين مصممين، ويتوقف النزاع حينما يتنازل أحد الطرفين عنه، لأنه لا يعقل أن يتصارع الفرد ونفسه.
2ـ ويقول المبدأ (الثاني): يتم إيقاف الصراع بالتخلي عن القوة من طرف واحد.
3 ـ ويقول المبدأ (الثالث): لا يعني التنازل عن القوة من طرف واحد أن يتراجع الطرف الذي يرى الحق في جانبه؛ بل يحاور الطرف الآخر، ويتحمل أذى الطرف الآخر. المهم عدم رد الأذى بالأذى؛ بل الثبات إلى درجة الموت من أجل الفكرة، وهذا هو مفهوم (الشهادة).
وبالطبع فإن تربية من هذا النوع في العالم العربي لم تتشكل بعد، فضلا عن الانطلاق في تنفيذها الميداني.
لا يعبأ القرآن في هذه القصة عن (نوعية القربان)، أي (الشيء) الذي نشب حوله الصراع، لأن له صورا لا تنتهي، ويكتفي بالإشارة إلى أنه قربان تم قبوله من الأول ورفض من الثاني. مرة أخرى نلاحظ في القصة عدم التعرض للاسم، للمكان، للزمان الخ. ومع أن الأول لم يسئ مباشرة إلى الثاني، إلا أن الثاني اعترض على النتيجة التي حدثت.
والآن كيف يرى كل طرف أن معه الحق؟ (الأول) بدليل نجاحه وقبول قربانه، و(الثاني) يرى أنه مع الحق لأن (الانتخابات مزورة!). وإذا كان كل طرف يرى أنه صاحب (الحق المطلق)، فكيف ستحل المشكلة إذن؟
الطرف الثاني الخاسر في الانتخابات، والذي يرى أنها كانت مزيفة، يرى أن حلها هو في التصفية الجسدية للطرف الآخر. انظر تعبير (لأقتلنك).
هذا الأسلوب أي الصراع الدموي هو أشد ما ابتليت به الإنسانية، منذ أن وعى الإنسان وجوده. بل إن بعض الفلاسفة يرون في هذا المرض أنه كان جرثومة إبادة الدول، وانهيار القوى العظمى، وتفسخ الحضارات (راجع «مختصر دراسة التاريخ»، للمؤرخ البريطاني جون أرنولد توينبي، في بحثه حول زوال دولة آشور الحربية).
ومن الغريب أن ظاهرة الحرب هذه التي هي أبشع من كل مرض، وأشد من كل داء، لم تدرس حتى الآن في أكاديمية مستقلة كظاهرة إنسانية، كما هو الحال في دراسة الأمراض المستوطنة والسارية، والتي قضت على البشر أكثر من كل الأمراض التي عرفتها وما زالت تعرفها البشرية حتى الآن.