أسطورة الوقت المناسب
أضع الفساتين داخل دولابي وأنتظر يوم الفرح الأكبر لأرتديها، أخبئ العطور والبخور والأواني لقدوم الضيوف الأعزاء، أركن المشاعر والأحاسيس لمقدم الحبيب المحتمل. ألجم الجمل والكلمات، أكبت الأفكار والخيالات إلى حين النضوج المطلوب والذي يسمح لي بفتح هذا الفم الجبان، ولو قليلا جدا، في مجتمع يخاف أفكار امرأة. أؤجل المتعة إلى أن أعثر على من يشاركها معي والضحك إلى أن يتفضل أحد ويضحك معي. لقد أجلت كل شيء إلى حين أن أصبح مثالية ورائعة، وبقيت أؤجل، وأنتظر الكمال والجلال، وكل ما حصل أني ما زدت إلا قناعة بأني بعيدة جدا عن كل هذا الخبل بعد أحلامي عني. أجلت الكتابة لسنوات طويلة حتى أصير محبوبة ومطلوبة، يتقبلني القارئ الجميل بصدر رحب. أجلت العثور على حقيقتي حتى أعثر على من يتقبل زيفي. تعب مني التأجيل وتعبت من نفسي ومنه، مللت من مخططاتي المؤجلة ليوم غير موعود وأحلامي موقوفة التنفيذ. أنتظر شيئا لا أدري ما هو. أطلق عليه اسم الوقت المناسب، وأسخر مني سرا وعلانية. أي وقت مناسب هذا الذي لا يأتي أبدا كحبيب تنكر لوعوده!؟ والحقيقة أنه لم يكن سوى حجة أتمدد تحت ثقلها خوفا من لحظة الانطلاق.
منا من انتظرت عريسا مهذبا سنوات كثيرة لتغير تسريحة شعرها، ومنا من أجلت كل مشاعر الحب والشوق والوله إلى أن يتكرم أحد ويطلب يدها. ومنا من انتظر اعتراف أبيه به حتى يعترف هو بنفسه، ومن ينتظر احترام مديره ليحترم هو نفسه. ننتظر أشياء هي منا ولنا، نربط صعود أنفاسنا بالطقس والفصل والظروف والجار والحبيب. ننتظر، لا نفعل شيئا سوى الانتظار. ننتظر أن نكبر كفاية لنستقل، ثم نكبر ولا نستقل. ننتظر مرور العاصفة للتأمل في السماء، فتمر العاصفة ولا نرفع رؤوسنا عن الأرض. مبررات بعضها فوق بعض، تخنقنا، تستنزفنا، تحيلنا لعرائس من قش تنتظر يد صانعها لترقص. العرائس ترقص ونحن لا نجرؤ. لكم نظرت إلى وجهي في مرايا الشوارع والمقاهي وسألتني بحزم شديد كمعلمة جغرافيا مغرمة بالخرائط: متى ستتوقفين عن الانتظار!؟ ولا أجد جوابا صارما ونهائيا. تماما كتلميذة تكره الجغرافيا والخرائط والمعلمة.
كل شيء نحيله للأيام لتحكم فيه وللزمان ليأتي به، ننتظر عثورنا على الجني وإبريقه، ليحقق لنا ما لم نستطع أن نستيقظ صباحا لأجله. ثم نجد الإبريق بدون الجني، ونكتفي بطهي الشاي فيه والتحسر.
ما أطول الانتظار وما أشد يأسنا ونحن ننام بين أحضانه، لا نحرك ساكنا كمرضى الكلي وهم ممددون أمام آلات التصفية البشعة، تمتص دماءهم وتنهك قواهم. غير أن الآلات وعلى بشاعتها تعيد إليهم دماءهم نظيفة نقية متخففة من الشوائب والسموم. أما الانتظار فيمتصنا وينهكنا ويعيدنا إلى الصفر محملين بمزيد من الشوائب واليأس والسموم والعجز.
لطالما خفت الترجل من قطار الانتظار المهترئ هذا الذي لا يوصل لمكان، والانطلاق وحدي على قدميّ الحافيتين نحو وجهتي المرغوبة، انطلاق خجول وبطيء، لكنه يبقى انطلاقا في جميع الأحوال. لطالما وددت أن أستهلك طاقتي المكبوتة دون تأجيل، أن لا أنتظر اعتدال الطقس لأجوب الشوارع، ولا أنتظر الصحبة لأستمتع بامتزاج البحر والسماء، وأن لا أتأكد من النجاح الباهر للإقدام على المجازفة. لطالما وددت القفز دون مظلة، والركض دون وجهة، والغطس عميقا دون قارورة أوكسيجين. أن لا أحسب ولا أحلل ولا أنتظر الوقت المناسب الذي لا يأتي. امتزج عندي الانتظار بكثير من الحذر والخوف. أبني أمامي العوائق وأنسج المبررات. لست جيدة كفاية، لست جميلة كفاية، لا أملك جسدا مثاليا كفاية، لا أتقن الكتابة كفاية، لا أصلح للاعتناء بمريض كفاية. انتظرت الكفاية. ولم تتحقق أبدا. وظلت المخططات حبيسة عقلي والمشاعر أسيرة قلبي.
لقد كان الانتظار الطويل يقتل الحياة داخلي ويحولني لعجوز ممتعضة على الدوام، أحنق على الناس لأنهم لا ينتظرون أو يتظاهرون بأنهم كذلك. أهرب من المواجهة وأتوارى عن الأنظار، أتجنب الناس ونفسي. كان يمكن أن أكمل مغامرتي هذه جالسة على مقعد مخملي أنتظر أن تعتدل الأحوال وتحل المشاكل وأمتلك الخبرة الكافية والقوة اللازمة. أن أحتسي قهوتي ممددة إلى أن يحين الوقت المناسب. لكن لحسن الحظ ولتعاسة الانتظار أني، وعلى غفلة من وعيي، أدركت، متأخرة بعض الشيء، أن الأمر مجرد أسطورة مفبركة وكذبة سخيفة استهلكت مني سنوات طويلة، لأفهم أني لست بحاجة لانتظار أحد لأستمتع، ولا لوقت مناسب لأسعد، ولا لظروف معينة لأرضى ولا لوصفة سحرية لأنجح. استوعبت، بعد عراك طويل مع فكرة الوقت المناسب، أنه غير موجود وغير حقيقي، وتوقع قدومه هو تماما كتوقع ولوج جمل متكاسل في سم الخياط. حينها، وبدون مقدمات، حملت أشيائي وكلماتي ومشاعري وأحزاني.. وقفزت.