إلى عهد قريب، كان الاستشراف فعلا فكريا تقديريا ممكنا، حتى لا نقول مطلوبا؛ إذ هو يسمح بتبين اتجاهات التطور انطلاقا من مقدماتها المعايَنَة في الحاضر والمجسدة في معطيات اجتماعية مادية مؤثرة.
وهو، إلى ذلك، يضع في حوزة من يستشرف (دولة، مؤسسة، باحث…) موارد تسمح بإنجاز تخطيط استباقي للسياسات المتعلقة بالأوضاع الناشئة المتوقعة في مستقبل قريب. هكذا يصبح فِعْلُ الاستشراف فعل تقدير عقلاني لاحتمالات يحبل بها المستقبل المنظور مبني (= أي التقدير) على بينات واقعية جارية في الحاضر، بحيث يوفر إمكانا لصوغ سيناريوهات عدة لِجَبْهِ مشكلات قادمة، أو لتعظيم مكاسب واعدة، أو لتفادي الانزلاق إلى أوضاع غير مرغوب فيها…
زاد من تعزيز مكانة الاستشراف في البحث العلمي وفي السياسات العامة ميلاد علم المستقبليات وتوسع نطاقات تدخله في جغرافية الاجتماع الوطني والإقليمي والدولي تساوقا مع تعاظم موارده العلمية المستقاة من علوم متنوعة (رياضيات، إحصاء، علوم اقتصادية، علوم اجتماعية، ديموغرافيا…). على أن هذه القيمة العلمية والإجرائية التي يضمرها علم المستقبليات – وهي محل اعتراف العلماء والدارسين – لم يسلط عليها الضوء بما يكفي، ولا وقع التسليم بها من خارج مجالات البحث العلمي، إلا حين اختُبِرَ الاستشرافُ من قبل مؤسسات رسمية في الدول فتبينت نتائجه الإيجابية بالنسبة إلى السياسات العامة. من حينها بدأ الطلب يتزايد على الاستشراف والدراسات المستقبلية، سواء من طرف القطاعات الحكومية في العالم أو من طرف الشركات والمؤسسات الخاصة بما فيها المؤسسات الإعلامية والصحفية التي بات مألوفا عندها أن تُعِدَّ برامج بصرية أو ملفات مكتوبة عن توقعات المتخصصين، في ميادين تخصصاتهم، لما ستكون عليه أوضاع البلدان والدول والاقتصاد العالمي وأسواق المال والنزاعات الدولية أو الإقليمية في مراحل قادمة… كي يُبْنى على الشيء مقتضاه.
ولقد تكرست للدراسات المستقبلية ودراسات التوقعات والاستشراف مؤسسات خاصة (مراكز، معاهد، أقسام خاصة في جامعات أو مراكز دراسات، أو وحدات للتحليل داخل مؤسسات إعلامية وصحفية…). وتُظْهِرنا هذه المأسسة لميدان المستقبليات على أن إرادة تطوير هذا القطاع الدراسي وإحكام تنظيمه، وإغداق الإنفاق عليه، سواء من الدولة أو من المؤسسات غير الحكومية، يفسرها الوعي المتزايد بالحاجة إليه في أي تخطيط للمستقبل والشعور بفائدة وظيفته وعائداتها الكبيرة على من يعتمدونه في التخطيط. ولعل الفكرة الأساس التي كان عليها مبنى المستقبليات، منذ البداية، هي أن المستقبل يُصْنَع في الحاضر وينبغي – لذلك السبب – التخطيط له تخطيطا عقلانيا يتجاوز به الناس مجرد التحسب للطوارئ ومجرد الخوض في الاحتمالات، على ما دُرِجَ عليه في الماضي. وهي فكرة أغرت جميع المتنافسين على الغد من أهل السياسة وأهل المال والأعمال والإنتاج… إلخ، جماعات كانوا أو شركات أو دولا، حتى بات اللجوء إلى الاستشراف مسلكا مألوفا في العالم المعاصر: غربا وشرقا.
كان ذلك صحيحا إلى عهد قريب؛ أعني إلى حين بدأت تتبين، مع التطور، الحدود المتواضعة للتوقع والاستشراف. كان ذلك قبل سنوات ثلاث حين داهمت العالم، وعلى حين غرة، جائحة وباء كوفيد من غير أن يدور بخلد أحد من أهل الاستشراف أن ذلك واقع في حكم الاحتمال، بحيث تتهيأ له المجتمعات والدول والمراكز الاستشفائية ومختبرات الأدوية. ولم تكن المشكلة في عدم توقع الوباء، من حيث هو وباء فيروسي؛ فقد لا يكون ذلك في حكم المتاح لخبراء في المستقبليات، وإنما كانت في عدم توقع أن يقود مثل هذا الوباء (أو أي طارئ آخر) إلى شل دورة الحياة العامة والإنتاج والاقتصاد والتجارة وانتقال الأشخاص والبضائع في العالم: على مثال ما حدث في العام 2000 وقسم من العام 2001. ولم تكن جائحة كورونا قد سددت ضربة موجعة للاستشراف والتوقع، حتى أتت الأزمة الروسية- الأوكرانية (والغربية استطرادا) وتأثيراتها الأمنية في مجمل المجال الأوروبي، ونتائجها الاقتصادية الكبرى التي أصابت ميادين الطاقة والغذاء – وهي التي لم يتوقعها أحد – تهدم البقية الباقية من صرح الاستشراف المشيد منذ عقود، وتطعن في مدى إجرائيته.
يبدو الاستشراف، اليوم، مع التحولات الكونية المنهمرة من غير انقطاع، أشبه ما يكون بقراءة الغيب، لتعسر البناء على معطيات هي عينها في حال من السيولة تمنع من الاطمئنان إلى هيئتها المكتملة. وما من شك في أن مؤسساته ستشهد على أزمة في صورتها وسمعتها لدى قسم كبير من الرأي العام، أصبحت تبدو له مؤسسات قارئة لمستقبل لا ترتسم علائم خطوطه في فناجينها. وهكذا في مقابل نزعة حتموية انتهى إليها التفكير في المستقبليات – في سياق جديد من انتعاشة العلموية – سيعاد بعض الاعتبار، بالتدريج، إلى التفكير القائم على مبدأ الاحتمال بدلا من مبدأ القطع أو الجزم، والتحليل المبني على تعدد الممكنات بدلا من التحليل المسكون باليقينيات.
عبد الإله بلقزيز