شوف تشوف

الرأيالرئيسية

أرض النفاق

«إذا قتلت صرصورا فأنت بطل، وإذا قتلت فراشة فأنت شرير.. للأخلاق معايير جمالية» هي مقولة تنسب زورا لنيتشه. ورغم أن الرجل لم يثبت عنه تدوين هذه الكلمات، إلا أن العبارة، في مجملها، تظل مثيرة للجدل. فهل تحدد الظروف نوعية الأخلاق؟ وهل للأخلاق معايير دينية واجتماعية؟ أم أن الأخلاق يجب أن تكون مطلقة؟ وهل الأخلاق مثالية فعلا أم أنها مجرد حزمة من القوانين المقيدة للحرية؟ إن الواقع الذي نعيشه اليوم لا يستطيع أن يقدم لنا إجابات مقنعة عن كل هذه الأسئلة المحيرة، بل العكس تماما.

مقالات ذات صلة

ففي عالم تغولت الوسائط التكنولوجية وسيطرت عليه وسائل التواصل الاجتماعية، أصبح من المستحيل تحديد قواعد أخلاقية كونية تضبط أساليب التعامل لملايير البشر الذين يتخذون من التطبيقات الرقمية وسيلة للتعبير عن آرائهم المتباينة، سواء عن طريق الكتابة أو البث المباشر، أو البودكاست أو عبر المحتويات الفنية كالرقص والغناء والمقاطع التمثيلية. وسط هذا الكم الهائل من البشر، الذين وجدوا أنفسهم فجأة يمتلكون وسائل تعبير غير تقليدية تسمح لهم بالتفكير الحر والتواصل المجاني مع العالم بكبسة زر، أصبح من الصعب جدا الحديث عن ماهية الأخلاق ولماذا نحن بحاجة لها.

هل صحيح أن المصلحة الشخصية هي دائما الصخرة التي تتحطم عليها أقوى المبادئ كما قال توفيق الحكيم؟ وهل الحديث عن الأخلاق في عالم يتم احتجاز ملايين البشر داخل سجون التجويع والتهجير والقصف المتواصل، أمر ضروري، أم أنه مجرد رياء ورفاهية فكرية مقيتة نلجأ إليها للتفاخر والاستعلاء والهروب من الشعور المخزي بالضعف والخذلان؟

لقد كانت العقوبات الحبسية التي صدرت في حق صاحب أغنية «كبي أتاي»، الأسبوع الماضي، بمثابة مقطع عرضي نستطيع من خلاله ملاحظة تفاعل مجموعة من العناصر الأخلاقية، كالحرية والقانون والجمال، داخل بوتقة الأخلاق. إن الغناء طقس بشري يستخدم الخيال في التعبير عن المشاعر الإنسانية، فما المعايير التي نقيس بها مدى تقبلنا أو رفضنا لأغنية ما؟ من بين التهم التي وجهت لصاحب «كبي أتاي»، تهمة التحريض على اغتصاب القاصرات. لقد كان من الضروري أن تتدخل الرقابة الأخلاقية هنا لتطبيق القانون مادام الأمر يتعلق بالترويج للاعتداء الجسدي على الطفلات. (لن نتحدث عن مفهوم الرضائية كعنصر مهم في المعادلة، لأن المُشَرِّع لازال ينظر للرضائية بتوجس ورفض نسبي)..، لكن المفارقة الغريبة أننا نردد بفخر وانتشاء قصائد الملحون المتخمة بإيحاءات جنسية واضحة وصريحة. فلماذا شعرنا بالقرف من مطرب لا يمتلك بالضرورة معايير جمالية معينة، وأيدنا قرار اعتقاله تحت ذريعة حماية القاصرات، بينما نتغنى بقصيدة «لالة غيثة مولاتي» التي، إن كنا منصفين في تفسير كلماتها، سنجد أنها عبارة عن رجل بالغ يتلصص على طفلات صغيرات ويجعلهن مادة خصبة لخيالاته الجنسية المريضة. فهل كان للجمالية دور في الزج بشخص «قبيح» في السجن مقابل الاحتفاء بآخر يمثل أصالة التراث؟

ارتفعت، أخيرا، العديد من الأصوات المطالبة بمحاسبة مسؤولة حكومية تحوم حولها شكوك بتبديد المال العام، لكن يبدو أن لسان حال الموظفة السامية يردد بهدوء: دعهم يأكلون البريوش.. فلماذا نستسيغ كعقل جمعي مثل هذه الممارسات اللاأخلاقية المؤذية، بل نتسابق نحو صناديق الاقتراع للتصويت عليها، بينما تثور ثائرتنا على مواطن معدم اكتشف صدفة أنه قادر على كسب أموال طائلة إذا قام بالرقص أو التلفظ بكلام «ساقط» أثناء بث مباشر؟ هل نملك فعلا غيرة على المبادئ والمثل العليا أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد غيرة وحسد من مغاربة بسطاء تمكنوا من صناعة الثروة، في الوقت الذي نتوجه نحن إلى المكاتب الباردة كل صباح مقابل جدريال؟

يظل السؤال الملح هو ما السبيل لحماية الجيل الناشئ من فوضى التعبير الحر على مواقع التواصل الاجتماعي؟ وهل يحق للدولة أن تتدخل في رسم حدود الحرية؟ وهل يحق للدولة أصلا أن تنصب نفسها طرفا في معادلة الحرية؟ ألا نطمح جميعا إلى بناء مجتمعات حرة تكون فيها الكلمة مقدسة بعيدا عن مقص الرقيب؟ وما الوسيلة المثلى للحفاظ على الحد الأدنى من القيم الفاضلة في عالم منفلت أصبح لا يعترف سوى بالنجاحات المادية؟ أليس الإجبار على الفضيلة يصنع لنا أجيالا تصارع الكبت والنفاق وازدواجية المعايير الأخلاقية؟ ربما يكمن الحل في التحلي بالشجاعة وفتح باب الحوار الحقيقي مع اليافعين، حوار خال من الطابوهات والأحكام المسبقة التي تكرس لسلوكيات منافقة تقيم الأخلاق بالفراشة وسراق الزيت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى