أمينة المريني..أرملة المهدي المنجرة التي ورثت مكتبة وحب الناس
حسن البصري
رغم أن المرض ناب عن الحكومة وساهم في نسيان المفكر المهدي المنجرة، ورغم الجحود وآلام المصادرة التي ظل عالم المستقبليات المغربي عرضة لها، من طرف وزارة الداخلية، إلا أن أمينة المريني، أرملة الراحل، عملت على تنفيذ وصية المهدي، وبادرت إلى منح مكتبته الخاصة للمكتبة الوطنية بالرباط، حتى ينهل منها الطلاب والباحثون الذين لم تتح لهم فرصة حضور ومواكبة محاضراته بسبب المنع.
لم يبادل الرجل الجفاء والتنكر بالغضب والانتقام، بل دعا رفيقة حياته إلى ترحيل كل كتبه ومؤلفاته التي فاقت 5560 كتابا، إلى المكتبة الوطنية، ناهيك عن عدد كبير من الصور والملصقات التاريخية، و808 مجلات و788 قرصا مدمجا. تم توثيق الهبة بمقر المكتبة الوطنية، وحملت توقيع أرملة فقيد الفكر أمينة المريني، ومدير المكتبة الوطنية إدريس خروز.
حرصت أمينة على تنفيذ الوصية التي شاركت في صياغتها ودافعت على حق الأجيال القادمة في الاطلاع على فكر المهدي عالم المستقبليات، بعد أن كان بيته في منطقة بئر قاسم بالرباط، عبارة عن مكتبة بعد أن احتلت الكتب كل الحيطان وزحفت على أثاث «فيلا» تحولت إلى صالون فكري يجمع خيرة المفكرين العرب والأجانب.
عاشت أمينة أصعب مراحل حياة زوجها المهدي، حين كان متابعا من طرف المخبرين، وواسته في زمن الحصار المضروب عليه من طرف وزارة الداخلية التي كانت تمنع لقاءاته الجماهيرية، وتغلق في وجهه قاعات الندوات والمحاضرات، وحتى الحق في ولوج «خيريات» وتنوير أفكار الطبقات الكادحة. كما عاشت معه محنة المرض بعد أن أصيب بداء الارتعاش الذي أقعده وحد من تحركاته ومن إبداعاته الفكرية.
حين أسلم المهدي جسده للمرض، تحولت أمينة إلى ممرضة تقضي وقتها بين سريره والمطبخ، لتلبية حاجيات ضيوفه الذين كانوا يترددون عليه، حيث كانت تحرص على ألا يساهم حوار الضيوف في الرفع من معاناته، لاسيما وأنه ظل يحمل في قلبه غصة المنع. طالبت أمينة بكل جرأة بعض الضيوف بالكف عن زيارة المهدي للضرورة الصحية، ورغم ذلك كان يواجه الآلام بتحد كبير ويصر على أداء صلواته في مسجد «كراكشو» بمعية رفيقه المهدي بن عبود الذي اقتسم معه الاسم والفكر وداء الارتعاش أيضا، وظلا في المحنة سواء.
كانت أمينة تقوم بشكل يومي بمراقبة وضعية المهدي الممدد في فراشه، وتتأكد من أنابيب البلاستيك المثبتة في أنفه والتي كانت تساعده على التنفس، وهي الوحيدة التي تفهم طلباته لأنه في الشهور الأخيرة كان يصر على الحديث إلى زواره رغم أنهم لا يفهمون أحيانا ما يقوله. وكانت أمينة تملك الجرأة الكافية لتقول لأكثر من زائر «ثقيل» «عذرا سيدي زيارتك تزيد من معاناته»، فيستجيبون لطلبها على مضض.
شاركت أمينة زوجها معركة الكتابة، وكانت بمثابة موجهة ومستشارة، كما كانت تتابع عمليات الطبع حتى يخرج الكتاب إلى الوجود، فتقابله الأسرة بالفرح وكأنه مولود جديد ينضاف إلى بنتيه «كنزة» و«حفصة».
ألف المهدي المنجرة العديد من الدراسات في العلوم الاقتصادية والسوسيولوجيا وقضايا التنمية، وظل مرتبطا بالبحث الأكاديمي، «من المهد إلى اللحد» مثل جندي يخوض «الحرب الحضارية الأولى» ويتصدى لـ «الإهانة في عهد الميغا إمبريالة»، سلاحه «قيمة القيم».
عاشت أمينة مع زوجها حياة الاغتراب بين دول المعمور، في الولايات المتحدة الأمريكية وإنجلترا وفرنسا واليابان. وفي العقدين الأخيرين، دعته للاستقرار في المغرب، «وظل بيته في العاصمة الرباط مفتوحا دوما أمام الجامعيين والطلبة الذين كانوا يزورونه في كل وقت. طلبة من كل الآفاق والتوجهات السياسية كانوا يبادلونه الحديث، ينصت إليهم ويستمع إلى صوت المستقبل الذي تبين بعض ملامحه قبل عقود. لم يكن يتخذ وضع الأستاذ بقدر ما يحمل صوته دفء الجد الحكيم الذي خبر الحياة»، كما قال أحد رفاق دربه العلمي.
وحين يخلو البيت من الزوار، تتحول أمينة إلى مهندسة ديكور، تعيد ترتيب الميداليات التي حاز عليها زوجها ثمرة لجهوده المعرفية، (ميدالية السلام من معهد «ألبرت إينشتاين»، والجائزة الكبرى لأكاديمية الهندسة الفرنسية، ووسام «الشمس المشرقة» في اليابان..)، إلى جانب عضويته في الأكاديمية المغربية إلى جانب أكاديميات دولية عدة، منها (الأكاديمية الإفريقية للعلوم، والأكاديمية الأوربية للعلوم والفنون والآداب، والجمعية الدولية للمستقبليات «فورتوبيل»). إضافة إلى أنه كان من مؤسسي ورئيس المنظمة المغربية لحقوق الإنسان، وعضوا نشيطا في حزب الاستقلال ومن بعده الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، قبل أن يعلن القطيعة مع السياسة.
كانت أمينة فأل خير على زوجها وهو يتقلد مسؤولية مدير عام لدار الإذاعة وعمره لا يتجاوز 25 سنة، لكنه قرر الانسحاب بعد أن تصدت له جيوب مقاومة مغربة الإعلام المسموع.
ظلت أمينة تقنع المهدي بضرورة مغادرة المغرب بعد أن أصبح محاصرا، ولأنها سليلة أسرة علم وفكر، وشقيقة مؤرخ المملكة عبد الحق المريني، فقد نجحت أمينة في مسعى قبول عالم المستقبليات الراحل منصب مستشار ببعثة المغرب في الأمم المتحدة. وحسب روايات أفراد أسرة الفقيد المنجرة، فإن والده امحمد المنجرة كان طيارا، وحين اشتد المخاض على زوجته، اعتذر عن القيام برحلة جوية إلى الجزائر، فناب عنه زميله المهدي الصقلي، وحين عاد هذا الأخير من الرحلة زار امحمد في بيته حيث صادف ولادة ابنه، فقرر أن يطلق عليه اسم «المهدي» تيمنا بصديقه الطيار، وذلك سنة 1933.