شوف تشوف

الرئيسيةتقاريرملف التاريخ

يوميات الصراع الدموي بين فرنسا وقبائل الجنوب

قراءة في أوراق ساخنة من مذكرات النقيب كورني 1912 و1913

هذه المذكرات التي حظيت ترجمتها إلى العربية، والتي أنجزها الباحث المغربي محمد ناجي بن عمر، باهتمام كبير أهلها لتكون على رأس قائمة اختيارات جائزة ابن بطوطة في صنف ترجمة الرحلات، تعج بتفاصيل كثيرة عما وقع ما بين سنتي 1912 و1913 من تحركات عسكرية فرنسية في المغرب.

مقالات ذات صلة

صاحب المذكرات الأصلية، النقيب كورني، والتي جاء عنوانها كما ترجمه د. محمد ناجي بن عمر: «رائحة البارود»، كان أحد العسكريين الذين عاشوا يوميات انتقال الجيش الفرنسي من مدينة الجديدة صوب مراكش، حيث خططت فرنسا هناك لاحتلال كل منطقة الأطلس، ومواجهة المقاومة المغربية التي قادتها القبائل.

هذا النقيب، يحكي تفاصيل مهمة بكثير من التعصب للجيش الفرنسي، لكنه يكشف بعض الجوانب التي لم تكن لتعرف نهائيا عن قصة احتلال الجنوب، لولا هذه الأوراق.

 

يونس جنوحي

 

 

++++++++++++++++++++++++++++

 

 

جنود فرنسا رأوا الموت قبل أن يحتلوا مراكش

«دوى البوق الفرنسي في عاصمة الجنوب بنغماته المعتادة، معلنا وصول الكتائب المرتقبة إلى المدينة، وكانت علامات التعب والإنهاك بادية على وجوههم نظرا إلى شح الماء وطول السهر، وشدة الحر. دخلوا يتقدمهم القائد خلفه السبايسية والقناصة الأفارقة، والكوميون، والرماة الجزائريون على صهوات خيول ضامرة، لكنها أنيقة. وكان معظم الجنود الفرنسيين في سن العشرين، ثم ظهر السينغاليون السود الأشداء الذين كان المغاربة يتطلعون إليهم باستغراب، كيف سولت لهم نفوسهم أن يكونوا حلفاء النصارى الكفرة. تجولت الكتائب بين الدروب الضيقة والعرصات، لكن الأسوار العالية حجبت عنهم رؤية القصور الكبرى، بدوا فرحين وسعداء لتمكنهم من إخضاع هذه العاصمة. تابعهم الأهالي بتحفظ وترقب، وكنت ترى نفرا منهم يتعقبون آثارنا بحذر شديد أسفل أسوار المدينة. وحده الحي اليهودي عَمِّهُ فرح عارم، فقد ملؤوا الشرفات يصرخون ويهتفون، والنساء يزغردن، واعتلى الآلاف من بؤسائهم الأسوار، ليتمكنوا من متابعة وصول كتائبنا الذي صادف اليوم الذي كان السلطان «الهيبة»، قد حدده موعدا لقتلهم، وتحرروا وأسرعوا إلى فتح حيهم الذي بقي مغلقا لأسبوع كامل».

هذا الكلام مقتطف من المذكرات النارية للنقيب الفرنسي «كورني»، وهو أحد الذين عاشوا الويلات أثناء توغل الجيش الفرنسي في الجنوب المغربي ما بين سنتي 1912 و1913. وهو ما يجعل هذه المذكرات قيمة جدا، بحكم أن التفاصيل المرتبطة بهذه الفترة بالذات قاتمة ونكاد لا نعرف عن تفاصيلها ما يكفي، لفهم أسباب ودوافع اختيار بعض الأعيان المغاربة الاصطفاف مع فرنسا، رغم أنهم كانوا فترة قصيرة قبل هذا التاريخ يُعادون فرنسا، بل ويطالبون بإعدام كل من يتحالف معها!

هل هي العداوة مع حركة «الهيبة»، الذي استكثروا عليه لقب «المجاهد»، أم أن هناك دوافع سياسية أخرى وراء ذلك؟

تفيد هذه المذكرات، بأن العملية الفرنسية لم تكن سهلة، رغم إصرار النقيب على أن يذكر انتصارات فرنسا، ويعتبر هزائمها مجرد انزلاقات أو تكتيكا لمنح فرنسا مساحة كافية للضرب من جديد.

جاء فيها أيضا، في يوم 1 أكتوبر، أثناء حديث النقيب كورني عن يومياته في مراكش: «اصطف آلاف الفرسان تتقدمهم أعلام حمراء وبيضاء، صباح هذا اليوم، لاستقبال الجنرال ليوطي. كما وقف حرس الباشا الحاج التهامي المكون من خمسمائة مغربي مسلحين حديثي العهد بالجندية، بألبسة رديئة عبارة عن سراويل «رمادية» ومعاطف تميل إلى الصفرة، تعلو رؤوسهم قبعات قرمزية اللون على جانبي الطريق، يُحيون بيد، ويمسكون بأخرى البندقية … بأجسام ملتوية، كأنهم ثمالى، أو يغالبهم النعاس! يتقدمهم القواد بشاشياتهم الحمراء الأرجوانية المعصوبة بالعمامة البيضاء، يُحيون بحركة السيوف والبطون المنتفخة. وعزفت فرقة موسيقية، تحمل أبواقا وطبولا استعدادا لاستقبال القائد الفرنسي الكبير، وهي الفرقة نفسها التي استقبلتنا عند دخولنا مراكش، وتقوم اليوم بدور شرطة المدينة. سطعت أشعة الشمس على أسوار المدينة، وقرميد بناياتها، وجوامير مساجدها المزينة بألوان الزليج المختلفة. أثارت حوافر آلاف الخيول الغبار تحت أشجار النخيل تأهبا للانطلاق نحو قنطرة وادي تانسيفت، حيث سيكون الاستقبال. يبدو أن المياه المنسابة من الأطلس بسرعة وزخم ستملأ الوادي حتى يفيض على الضفتين».

 

مواجهات مع الرجال الزُرق.. كتائب الموت التي قادها الهيبة لكبح فرنسا

في يوم 13 أكتوبر، كتب النقيب كورني قائلا: «أشرقت شمس صبيحة هذا اليوم وسط سماء صافية بعد ليلة ماطرة، عبثت بالأسقف المرمرية للقصر، وبدا في الأفق الأطلس، يطاول بقممه الثلجية عنان السماء. لكن، خلف هذا الجمال الطبيعي الأخاذ يتربص الهيبة بتارودانت، عاصمة سوس، التي آوت دائما «المهديين المنتظرين» والمغتصبين للحكم، بل إن بعضهم مثل السعديين حكموا البلاد في القرن السادس عشر إلى حدود البحر الأبيض المتوسط. تفيد الرسائل التي وصلتنا بأن الهيبة يستضيف يوميا أتباعا جددا، ويجمع أمره بحزم، ليعبر مضايق حاحة وأمسكرود والكندافي، إلى ما بعد الأطلس لطرد أعداء الدين.. لكن للأسف فإن مصير الرجال الزرق الآتين من الصحراء هو العودة إليها، سيتراجعون بخُطى متثاقلة أمام زحف النصارى، لعنهم الله! مساكين هؤلاء الرجال الزرق! فبالأمس كانوا يتجولون في المدينة التي أسسها جدهم زعيم المرابطين يوسف بن تاشفين، الذي جاء من ضفاف نهر السينغال منذ أكثر من عشرة قرون، والآن أصبحوا مطرودين. فالأقدار تغيرت. ويمكن ليوسف بن تاشفين أن يرى من قبره وسط حديقة غناء مَعْلَمة جديدة شيدها خلفاؤه الموحدون الغزاة الجدد، وهي الكتبية الشامخة تعلوها الجوامير الذهبية. من يتذكر اليوم مؤسسي الدولة؟ فأسماؤهم معروفة حقا، لكن، غير «محترمة»، فقد جاء صلحاء وأولياء جدد، استطاعوا أن ينالوا تقدير المسلمين واحترامهم. وأعيان مراكش والتجار الأغنياء يعيشون في قصور مراكش المذهبة التي بُنيت فوق أراضي المرابطين «يبايعون» الهيبة الكذاب. ورغم ذلك، كان هناك لسلاطين بربر أيضا كبرياء «القياد» الكبار.

رمم العقيد مانجان ضريح يوسف بن تاشفين الذي كان عبارة عن حجر طويل دون سقف، كما حياه يوما وهو يتجول مع الباشا الحاج التهامي الذي همس في أذنه: «أنتَ تُسلم على صديقك، فمتى ستبني له ضريحا؟»، فأجابه العقيد: «لا أبدا وقال الباشا إنه رجل عاش تحت الخيمة، ولن يتحمل أن يُبنى عليه سقف، فقد حاولنا أن نبني عليه قبة مرتين، فكانت تنهدم. وأنتم تعلمون كل شيء عنا».

أما في يوم 14 أكتوبر فقد حدث الآتي: «لما اقترح العقيد مانجان – تبعا للعادة المغربية – تسخير القبائل الموالية لنا لمواجهة الهيبة، دون عناء إرسال فرقنا العسكرية إلى سوس، استحسن الجنرال ليوطي الفكرة. فمن الهام أن نجيب بالحركة عن الانتشار الواسع للهيبة، ليس فقط في سوس والأطلس، ولكن أيضا في الحوز وما وراء تانسيفت وتادلة، بل إلى ضواحي فاس. ووعد «القياد» البربر لمراكش المتوكي والكلاوي والكندافي بتقديم الدعم التام. وكانت هذه Levée إلى حدود اليوم أمرا عاديا في المغرب، فالقبائل الخاضعة لم تدخل قط في مساومات مع السلطان، من أجل دفع الثائرين أو غزو القبائل «السائبة»، فقد سبق للوحدات العسكرية لمراكش أن حاربت الروكي «بوحمارة» بتازة. كما شكلت حديثا القبائل المجاورة لموكادور – بدعوة من القنصل حركات استعدادا لصد الهيبة الذي عبر الأطلس عبر ممر أمسكرود فنجح الأمر، وتراجع بعيدا عن المدينة التي لم يكن يحرسها سوى طابور بسيط من الجنود المغاربة تحت قيادة ضباط فرنسيين. لذلك ستعبر الوحدات العسكرية للكلاوي والمتوكي الأطلس عبر ممر في الكندافي، فيما ستمر وحدات المتوكي عبر مضيق أمسكرود، وستتشكل حركة أخرى مكونة من قبائل حاحا والشياظمة المجاورة لموكادور وأكادير، والواضح أن هذه المجموعات التي تفتقد لجنود نظاميين مدربين، وتأطير أوروبي، ستنقصها الفعالية، لكن وجودها في سوس سيشكل تهديدا للهيبة، ويحد من خطورته، ويعيق تحركاته في المغرب. كما سيمكننا النظام المرن للحماية من التحرك باسم السلطان، وبعث مزيد من المحلات المكونة من الأهالي – كما سبق أن قمنا بذلك – دون أن نخسر فرنسيا واحدا. وجدنا المدفعيين يستخدمون مدافع «Krupp» يتلقون تدريبا يوميا من الأوروبيين. لكن المشاة لم يكونوا منظمين لسوء تسيير وإشراف قادتهم، فقد كنا نراهم يتجولون يوميا بشوارع المدينة، ويرتادون محلات الموسيقى والغناء. الباشا وحده من أدمجهم في سلك الجندية، وألبسهم حسب ذوقه ملابس بائسة عبارة عن سروال «saumon»، ومعطف إنجليزي أحمر بـ«عنق» أصفر، وشاشية تميل إلى الحمرة، ولقبهم رجالنا «طيور الحسون» (كلاليوس)، بسبب ألوان لباسهم «المبرقش». وأظهر هذا التعاون السريع على الساحة العسكرية ذكاء البربر الذين انضموا إلينا بسرعة، وأخبرنا أنه قبل دخولنا مراكش، كانوا قد حظوا باستقبال جيد من ساكنة المدينة».

+++++++++++++++++++++++++++++++++

 

 

الخوف ولحظات الترقب للانتقال من الجديدة في اتجاه الجنوب

 

19 غشت

قرر الرائد الكومندان «روف» الانتقام من الدواوير التي سرقت بريدنا. فانطلق ليلة البارحة مع نصف الفرق العسكرية، وشن عليها هجوما مباغتا. سمعنا دوي مدافعه عند مطلع الفجر، ثم عاد أدراجه عند الزوال بجريحين فقط. لكن إصابة الملازم فروسارد كانت خطيرة، لأنه تلقى إصابة في الكبد. وفي يوم الثامن عشر، خرج الرائد من مراكش مصحوبا بأحد الرجال.

احتل الهيبة المدينة، وبينما فتح أبوابها كل من المتوكي، والباشا إدريس ولد منو، وبقي الكلاوي وفيا يؤوي بعض الفرنسيين الذين بقوا محتجزين عنده. فكنا مُلزمين بالتحرك سريعا نحو مراكش، للإفراج عنهم قبل أن يصيبهم مكروه.

 

21 غشت

غدا هو موعد انطلاقنا إلى مشروع بن عبو لملاقاة العقيد مانجان مع الجنرال ليوطي. وصلنا قبل الجنرال ببضع ساعات، وتلقى العقيد الأوامر بأن يكون أكثر حزما ويقظة قرب سوق الأربعاء، وبعدم التحرك نحو مراكش قبل أن تدعمه الفرق التي ستأتي من سيدي بنور بدكالة، بقيادة المقدم جوزيف.

عانينا خلال النهار من طقس سيئ ومتقلب. فقد كانت الرياح قوية، تُثير زوابع غبارية طوال النهار، أما الليل فكان أدهى وأمر، لأننا عانينا شدة الحر الخانق ولسعات البراغيث التي طوقت المخيم ومنعتنا من النوم.

 

22 غشت

كنت مشتاقا كثيرا للذهاب إلى سوق الأربعاء، ثم العودة لتناول وجبة الغداء، وجاءنا رقاصان، على الساعة الثالثة بعد الزوال، بخبرين سيئين أكدهما لنا صديقنا راجع، شيخ سوق الأربعاء، الذي كان مصدرا موثوقا به. وهما أن خليفة الهيبة موجود غرب مركز بوهام، لا تفصلنا عنه سوى ثلاث محطات. كما أن الهيبة اعتقل الأوروبيين المقيمين بمراكش. لم يبق هناك مجال لإضاعة الوقت، إذ علينا أخذ التدابير اللازمة لمنع الحركة من الهجوم على الطابور الضعيف للمقدم جوزيف، واستغلال فرصة مرور الهيبة بالقرب منا لمهاجمته، ومنعه من مواصلة زحفه نحو الشاوية، وإرغامه على التراجع نحو الجنوب، متناسين تبعات العملية الليلية، فأرسلت برقيات كثيرة من طرق مختلفة إلى المقدم جوزيف، كي يوافينا عند وادي فران.

على الساعة الخامسة مساء، بعد أن تركنا أمتعتنا، تحرسها فرقة عسكرية، وبينما كنا نستعد للانطلاق صوب «وهّام» وقع حدث طريف، ذلك أن الشيخ راجع لما رآنا نرفع المخيم، ظن أننا سنتراجع أمام العدو، فصرخ بأعلى صوته: هل ستتركوني فريسة سهلة للخليفة، يهجم على دواويري ويقطع رأسي بعد أن كنت مُضيفكم ودليلكم؟

لكننا طمأناه، وهدأنا من روعه، وطلبنا منه أن يتقدم الطابور، ليستمر في دور الدليل، وبحلول الظلام بدأت أولى طلقات الرصاص تتبادل بالمقربة من سوق الأربعاء.

جاء في مذكرات النقيب كورني أيضا، أن الفرنسيين وجدوا صعوبة في إقامة مخيمهم ليلا، لكن اشتباك الجنود الفرنسيين جعل المقاومة المغربية تعود إلى الخلف لتترك المجال للفرنسيين للتقدم نحو الجنوب.

كانت هذه بعض يوميات النقيب كورني، أثناء انطلاق الرحلة من بحر مدينة الجديدة، في طريقه إلى طابور الجنوب.

 

 

وجبة غداء مع الجنرال ليوطي في الطريق إلى مراكش

يواصل النقيب كورني سرد يومياته التي كانت «دامية» في بعض الأحيان، ويحكمها الخوف من المقاومة في الجنوب، في أحيان أخرى. يقول متحدثا عما وقع في يوم 4 شتنبر، أثناء تحرك قوات التجريدة الفرنسية التي كان محسوبا عليها، نحو مراكش: «وصل اليوم الجنرال ليوطي، كما كان متوقعا، في أجواء يلفها الترقب والحذر، تقدم العقيد مانجان مفتخرا أمام الجنرال، وراءه رجاله الخمسة آلاف المدربين جيدا والمتحمسين للتحرك لنجدة معتقلينا. أعطى «بابا»، طباخ العقيد مانجان، الأوامر بأن يلتف حول موائد بثلاث أرجل قصيرة، وكراس من صناديق خشبية، ثلاثة عشر رجلا بدل أربعة. وعوض مسح الأيدي بالمناشف، استعملت المناديل الورقية، المخصصة لدورة المياه. أما مناديل المائدة، فقصيرة لا تُغطي جوانبها، واستعملت ملعقة كبيرة لشرب الحريرة لتحريك القهوة، وشرب النبيذ في أوان حديدية مزلجة، واختتم المشهد بزوبعة من الغبار دامت لساعات وساعات..

غادرنا الجنرال بعد الغذاء على فرسه راضيا عن حفاوة الاستقبال، ليلتحق بالسيارة التي تنتظره بأم الربيع، وكان بوده أن يتقدمنا في الزحف على العدو.

وقبل أن ننطلق هذه الليلة في اتجاه مراكش، جمع العقيد مانجان عددا من ضباطه يصل إلى خمسين، ليشرح لهم خطته، وكان يتكلم بنبرة فيها مزيج من الهدوء والحماس، وحثهم على بذل جهود مضاعفة لمباغتة العدو بسرعة، والتقدم نحو أسوار مراكش وإطلاق سراح مواطنينا.

5 شتنبر

استفقنا في منتصف الليل، ولم ننطلق إلا في حدود الثالثة صباحا، لأنه كان علينا تحميل قافلة تتكون من ألف وخمسمائة بغلة، وألفي جمل، ولما كنا ننتقل ببطء، قررنا تقسيم الوحدات إلى مجموعتين، تتكفل الأولى بمهمة حماية القافلة، بينما تتولى الثانية مواجهة العدو. وصل الطابور إلى بن كرير على الساعة العاشرة دون مشاكل، واخترنا التوقف قرب خمس قبب لأضرحة، زُينت جدرانها من الداخل بالألوان، فالفنانون المغاربة يحبون كثيرا الأخضر والأزرق. واللون المأخوذ من أكسيد الحديد. لكن هذه الآثار العمرانية لم تكن لها القيمة نفسها للمكعب من الحجارة البيضاء. فوق سقف القبة تعلو «جبانية» من حديد، وبوابة مزينة بالقرميد الأخضر، تفضي إلى الداخل. حيث تتمدد في العتمة قبور لثلاثة أولياء، يقدسها المسلمون أكثر من تقديسهم لله، وتميز أحد الأضرحة بعناية خاصة، حيث زين برسوم جميلة ونقشت أحجاره بدقة، كما صممت شبابيك النوافذ الحديدية بمهارة..

كان الموقع ملائما للاستراحة، وإن كنا نعلم أنه تنتظرنا تحديات كبيرة، حتى نصل إلى العدو. فأعطيت التعليمات للوحدات كافة لأخذ ما يكفي من الماء، ذلك أن أقرب الآبار لن نصل إليها إلا غدا بعد الزوال، بمنطقة سيدي بوعثمان، فملئت الحاويات والبراميل من الاحتياطي الثمين، وشربت الحيوانات بسرعة متناهية، وما إن دقت عقارب الساعة الثانية حتى كان الطابور مستعدا للانطلاق وسط جو شديد شديد الحرارة، وصلنا إلى «نزالة لعظم» على بُعد ثلاث مراحل من بن كرير جنوبا، بعد أن أرخى الليل سدوله، فتعذرت علينا الرؤية وراء الحواجز الشوكية التي تسيج الدواوير. غابت الأعلام البيضاء، لأن السكان التحقوا للانضمام إلى صفوف العدو».

كانت إذن كل المؤشرات تقول إن المواجهات مع القبائل التي كانت معادية لفرنسا، سوف تكون دامية.

 

 

عندما دُمرت مراكش بسبب مواجهات المتوكي والكلاوي لقوات الهيبة..

إليكم ما وقع في السابع من شتنبر 1912: «توالت الأخبار والروايات. فالفرنسيون بعد خروج «المستعمرين»، نظموا حركة بدعم من الطابور والتجريدات التابعة للجنرال والقواد الكبار. المتوكي والكلاوي والباشا إدريس منو.. لمنع الهيبة من الدخول إلى المدينة، قد تراجعوا وارتدوا بعد وصول كتائبه وعجز حراسهم الضعاف عن المواجهة. ففكروا في الالتحاق بالساحل، لكنهم مُنعوا بوابل من الرصاص عند مخرج النخيل. فرجعوا إلى المدينة، ليحتموا بالمتوكي.

ولما دخل الهيبة مراكش في اليوم الموالي اختار مواطنونا أول الأمر ضيافة المتوكي، ثم لبوا دعوة الهيبة بعد ذلك في دار المخزن، ظنا منهم أن الكلاوي لن يصمد طويلا. فما كان من الهيبة إلا أن اعتقلهم كلهم، لكنه أطلق سراح الكلاوي في اليوم الموالي، ليبقى مصيرهم مجهولا.

ظل الرهائن لمدة عشرين يوما، لا يعرفون أي شيء عما يدور حولهم، بل لم تتح لهم فرصة لقاء الهيبة الذي أبى أن يستقبلهم، وكانت صلة الوصل الوحيدة بينهم وبين العالم الخارجي، أحد رجال الكلاوي الذي كان يمدهم بالطعام كلما سنحت له الفرصة خارج المعتقل، ويرسلون معه رسائل قصيرة مخبأة، ويحرصون على كتابتها بخط يوناني أو ألماني، وإن كان محتواها فرنسيا، خوفا من أن تقع في يد أحد اليهود أو الإسبان الموجودين بمحيط الهيبة، لأنهم كانوا يعرفون لغتنا.

إن من نظم الهجوم على دار المخزن هو الحداد «لوجيس فيوري» الذي كان مواليا للحاج التهامي وسي المدني الكلاوي والعيادي والمتوكي، دون أن يفطن إليه الهيبة. بل إن الأسرى أنفسهم لم يكونوا على علم بالخطة، التي كانت تُحاك لتخليصهم من الأسر.

انتهز السجان فرصة دخوله السجن بدعوى أنه يريد أخذ زربية، ليعطيها إلى أحد المرضى، فانحنى قبل أن يغادر، على القنصل، ليهمس له في أذنه:

– ما كنت لتفعل للسلطان إن أبقاك على قيد الحياة أنت ومن معك؟

فخرج مسرعا دون أن ينتظر جوابا. وما هي إلا لحظات حتى سُمع ضجيج كبير، وفتح الباب من جديد لتقتحم قوات فرنسا وخيالة الباشا إدريس منو الزنزانة صارخين في وجه الأسرى: أنتم أحرار.

لنعد للحاضر الأهم الآن. تركتُ الناجين في منازلهم، وخرجتُ حوالي الساعة العاشرة للقيام بجولة رفقة أحد رجال الحاج التهامي. ولكي أتطلع من فوق السور إلى اقتراب الطابور، لكنني لم أر شيئا وإنما سمعتُ دوي البنادق، وطلقات المدافع قادمة من ضواحي تانسيفت.

بدت مراكش «خربة» وشوارعها ضيقة خالية، تنوء بالأوساخ والقاذورات المغطاة بأسراب الذباب، وتنبعث منها روائح كريهة، تزكم الأنفاس، أما أبواب المنازل والمحلات التجارية فموصدة. تبدو المدينة ميتة، لا تسكنها سوى الأشباح، أما السكان فقد لاذوا بمنازلهم الترابية مذعورين..

أسرعنا بدورنا نحو الأبواب، وأخذنا نطرقها بقضبان حديدية عسى أن يفتحها الحراس. ساد الظلام بعض الأزقة المنكوبة المسقوفة بالتبن.

في اليوم الموالي لم نرصد أي تحرك أو غبار يتطاير، أو صوت يُسمع عبر شرفة الشريف ولد مولاي رشيد الذي آوانا في غابة النخيل تحت حرارة الزوال.. ولما رجعنا عند الحاج التهامي، نلتمس عنده بعض الأخبار، علمنا أن الرائدين سيمون وفيرلي هانوس ذهبا للقاء العقيد «مانجان»، وسيطل علينا الطابور في غضون ساعتين من الحدائق الشمالية للمدينة، حيث سيُبنى المعسكر فنلتحق بهم».

 

 

لماذا ذهب الكلاوي مع الفرنسيين؟

حاول أكاديميون مغاربة، على مر سنوات، الإجابة عن هذا السؤال، بتأمل آلاف الوثائق الفرنسية، لكن الإجابات كانت متباينة. إذ إن الجواب هنا يتطلب استحضار السياق التاريخي والأحداث التي عاشها هؤلاء الأعيان المغاربة، الذين كانوا يُسمون أعيان الجنوب.

أحد الباحثين الأجانب الذين حاولوا دراسة هذه العلاقة بين أعيان المخزن وجيش فرنسا، أثناء الاحتلال العسكري للجنوب المغربي ما بين سنتي 1912 و1914، هو الأسكتلندي غافين ماكسويل. فقد جاء في كتابه عن علاقة أسرة الكلاوي بالفرنسيين والتحالف العسكري الذي جمعهما معا، ما يلي: «في سنة 1893، عاد المولى الحسن الأول من حملة تأديبية ضد منطقة الجنوب للقضاء على تمرد بعض القبائل. وعين الزعيم المدني الكلاوي على تلك القبائل».

هذا الباحث والمغامر لم يكن من أنصار النظرية الفرنسية، لذلك نظر إليها بعين مجردة من أي تعاطف. يقول أيضا إن المدني الكلاوي، الأخ الأكبر للتهامي، قد بدأ فترته الذهبية، ووطد علاقته بالسلطة في المغرب أولا، قبل أن يتجه صوب الفرنسيين، خصوصا وأن علاقة صداقة متينة جمعته بالمولى عبد الحفيظ الذي كان وقتها مقيما بمراكش ممثلا لوالده السلطان. كان المدني الكلاوي محافظا للغاية، لكن الأخ التهامي لم ينشأ في ظل الأخ الأكبر، وحاول الانسلال بشخصيته من ظل أخيه، سيما وأن سنة 1908 شكلت منعطفا حاسما لنسف معتقدات المحافظين المغاربة، الذين كانوا يعتقدون أن القصر عليه أن يقاطع فرنسا نهائيا وأن السلطان يجب عليه ألا يفتح باب الحوار مع الفرنسيين، وهو الأمر الذي كان مستحيلا تماما.

بالإضافة إلى هذا كله، فإن المدني الكلاوي، كبير عائلة كلاوة، كان الداعم الشعبي الأكبر لسلطة المولى عبد الحفيظ، وتابع كيف أن المغرب أصبح تماما في عنق الزجاجة.

هنا جاء دور التهامي الكلاوي. سنة 1912، كان التهامي يتربى في ظل السلطة. شابا في كامل حيوته واستعداده لبدء مساره الخاص، ليترك بصمته في سيرة العائلة التي تتزعم قبائل الأطلس والجنوب عموما، ولم يكن محيطه يدركون أنهم أمام مشروع زعيم حقيقي، سوف يقلب المعادلة ويجعل من عائلة «الكلاوي» أسرة تصل إلى العالمية، ويصبح قصرها مفتوحا أمام كبار الشخصيات العالمية السياسية والعسكرية أيضا.

الأحداث التي تربى فيها التهامي الكلاوي لم تكن سهلة، فقد كان عليه أن يتابع كيف أن فرنسا كانت تضرب بقوة في المغرب وتعصف بكبار الشخصيات المحافظة والمعادية لفرنسا. وأغلب هؤلاء الأشخاص المعصوف بهم كانوا في الحقيقة أصدقاء مقربين لأخيه المدني الكلاوي.

الأعيان الآخرون الذين ذكرهم النقيب كورني في مذكراته، كانوا متأثرين بموقف عائلة كلاوة. وهناك شبه إجماع بين هؤلاء الأعيان، أنه لولا ميل كلاوة أولا إلى مناصرة ليوطي، لما كان هناك تحالف بين فرنسا وكبار أعيان مراكش وأقواهم تأثيرا.

ليبقى بعض القواد متمسكين بموقفهم الرافض لوجود فرنسا في المغرب.

هذه المذكرات حاول النقيب كورني الإبقاء على ماء وجه فرنسا، وذكر الهزائم التي مُنيت بها فرنسا وحاول ربطها بانتصارات أخرى، دون أن يغفل ذكر الدور الذي لعبه الباشا الكلاوي ومن يحوم في فلكه من رجال المخزن، ممن قرروا الاصطفاف في صف فرنسا، في المخطط الكبير لاحتلال الجنوب المغربي. يقول: «وصل أعيان مراكش أمام خيمة العقيد مانجان المبنية تحت أشجار النخيل والزيتون. وأخذ الكلمة الحاج التهامي الكلاوي الوفي طيلة هذه المدة، نيابة عن الجميع، وقال: نشكر أولا الحكومة الفرنسية، ثم صاحب الجلالة، والعقيد مانجان الذي حررنا من الهيبة الكذاب.

وتبادل الأعيان عبارات المجاملة. وقال الكل إنهم فرحون بوصولنا كما نقلوا لنا رضا الساكنة، ثم وصل آخر الملتحقين، وهم كابّا، باشا تارودانت، وحيدة أومويس، قائد سوس ووزير حرب الهيبة. ولم تكسر هدوء الليلة بالمدينة، إلا طلقات رصاص يائسة تُعلن احتضار الثورة».

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى