شوف تشوف

الرئيسيةفسحة الصيفمجتمع

يوم هيروشيما في التاريخ

بقلم: خالص جلبي

 

في 6 غشت و9 غشت تم ضرب هيروشيما وناغازاكي بالسلاح الذري الانشطاري، وبتوقيع واحد من الرئيس الأمريكي الأسبق «ترومان»، بمسح مدينتين في ثلاثة أيام!

 

هل كان استعمال السلاح النووي ضروريا؟

لقد تضاربت الآراء حول استخدام السلاح النووي في أربعة اتجاهات:

(1) فأما «إنريكو فيرمي Enrico Fermi» فكان يمثل وجهة النظر التي تقول دعنا نقوم باستعراض للقوة أمام خليج طوكيو، فيعرفون أنهم يواجهون سلاحا لا قبل لهم به، فلا نحمل وزر حرق الأطفال الأبرياء والنساء الحوامل، ونرسل إلى عالم أنوبيس السفلي مئات الآلاف من الأكفان.

وكان الجواب مضاعفا (A) ماذا لو لم تنفجر؟ ثم (B) إنه ليس في اليد سوى ثلاث قنابل جاهزة للاستعمال، فأما الأولى فجربت في صحراء ألامو غوردو وبقيت اثنتان، لم ينتج خلال سنتين مصنع «أوك ريدجOak Ridge » عند نهر تينينسي، سوى واحدة من نوع اليورانيوم 235 المخصب، وأعطيت اسم الولد الصغير (little Boy)، والثانية في لوس ألاموس من نوع البلوتونيوم 239 التي جربت، وعمدت باسم الثالوث المقدس «ترينتي Trinity»، وسميت «الرجل السمين Fat Man»، لأنها مكورة ضخمة بوزن 4 أطنان.

(2) أما «ليزلي جروفزLesli Groves »، الرأس العسكري لمشروع مانهاتن في لوس ألاموس، حيث تم تصنيع قنبلة البلوتونيوم، وباعتباره العسكري الذي أشرف على المشروع ثلاث سنوات، فكان رأيه أن معظم المدن اليابانية أصبحت هشيما تذروه الريح، فلنجرب مدينة مهمة جميلة كثيرة السكان لم تدمر بعد. وإن «كيوتو» المدينة الأثرية المقدسة «ما يشبه مكة عند المسلمين» ذات الثلاثة آلاف معبد، ويسكنها الملايين، تجربة جميلة مثيرة على الفئران اليابانية «عقلية عسكري!». ومن أنقذ مدينة «كيوتو» من المصير الجهنمي، التي هي (مكة) اليابانيين، كان وزير الحربية الأمريكي «هنري ستمسون» الذي كان يحمل لها أطيب الذكرى، فبدأ «آلهة» الأولمب في انتقاء عالم الأتراح التي ستدخل إليه الأرواح في أمكنة الإفناء الأبدي.

(3) أما «روبرت أوبنهايمر»، الرأس العلمي للمشروع الذي سهر على ولادته، فكان الرأي الأعتى أن تضرب اليابان وبشدة، لتكون الصدمة في حدها الأقصى، وفي أكثر من مكان وقنبلة ـ ظهرت للسطح معلومات عن ضرب ناغازاكي بقنبلتين، واحدة منهما لم تنفجرـ، وهذا الرأي هو الذي تم تبنيه. كان هذا الرأي الذي اعتمده الأمريكيون، فهذه هي الطريقة الوحيدة لاستسلام اليابان بدون قيد وشرط وإنهاء الحرب، فاليابانيون كما وصفهم ترومان: قوم قساة غلاظ شداد، عنيفون متعصبون برابرة دمويون، لا تعرف الرحمة إلى قلوبهم سبيلا. وهكذا فقد انفجرت القنبلة كما اقترح العالم الذري أوبنهايمر بارتفاع 600 متر فوق منتصف المدينة، صباحا عند الساعة الثامنة و16 دقيقة وقت الذروة، فكان التدمير والقتل وفي دقائق ما لم يشهده بنو الإنسان، منذ أن وجد الإنسان على ظهر الكوكب.

(4) وأما من رأى أن اليابان في طريقها إلى الاستسلام، بعد فك الشيفرة اليابانية، ومعرفة أن هناك اتصالات بين الإمبراطور «هيروهيتو» مع السفير الياباني «نا أوتاكي ساتو» لدى الديكتاتور ستالين، في توسيطه مع الأمريكيين من أجل سلام عادل مشرف مشروط، وأن المسألة مسألة وقت، فلم يبق شيء في اليابان لم يحطم، وأن سمعة أمريكا في التاريخ ستكتب في الأذلين، أنها كانت أول من استخدم السلاح الذري ضد البشر، وهو عار لن يغفره لها التاريخ، فلم يلتفت إليه أحد.

 

دخول الروس لمنشوريا

اليوم تظهر معلومات جديدة للسطح، أبرزها الدراسة التي قام بها «تسو يوشي هازيجاوا Tsuyoshi Hasegawa» من جامعة هارفارد، في كتاب بعنوان «تسابق العدو: ستالين ترومان واستسلام اليابان»، وفيه ذهب المؤرخ إلى الزعم بأن ما جعل اليابان تستسلم لم يكن السلاح الذري، بل دخول الروس إلى منشوريا، في 8 غشت 1945، فستالين المجرم بعد أن اغتصب كل امرأة ألمانية، وكانت سياسة الجيش الأحمر ليست العين بالعين، بل العين بعينين، وكل قطعة حديد ومصنع ومؤسسة وجهاز، وقع في أيديهم من الأرض الألمانية، نهبوه بأشد من أتيلا، زعيم الهون. قام المجرم بسحب مليون جندي من ألمانيا، ودفعه باتجاه الشرق في 136 ألف عربة قطار، في ثلاثين رحلة يوميا باتجاه منشوريا، وكان التسابق مجنونا على أشده حول قطف الثمرة اليابانية الساقطة، فالأسد الأمريكي لا يريد المشاركة في غنيمة تعب فيها، والدب الروسي سال لعابه لفريسة فاحت رائحة دمائها، فهيجته بإثارة لا تقاوم. مع أن الاتحاد السوفياتي اشتراكي أبو الفقراء والمعوزين، ولكنها سخرية التاريخ، وكما يقول أرسطو فالتاريخ تراجيديا لمن يشعر، وكوميديا لمن يفكر.

والحرب جنون، وهي تهاوي جلد الحضارة، ليبرز الوحش الإنسان بدون قانون، ففي الحرب ليس من حرمة لشيء. وهو ما قاله الملاح «فان كيركVan Kirk » في طائرة «29-B»، التي ألقت القنبلة، وهو يتذكر ما حدث: كان جنونا، ومن بدأ الجنون وجب أن ينهيه بسرعة، ولعلنا فعلنا ذلك.

وبعد ضرب هيروشيما كان حامل أختام الإمبراطور «كو إيشي كيدو Koichi Kido» هو من نقل الخبر إلى الإمبراطور، الذي قال لجنرالات الحرب، إنني أريد أن أوقف معاناة شعبي، بانتظار أن يعلنوا الاستسلام، وطلب من وزير خارجيته «شيجي نوري توجو» إنهاء الحرب بأي ثمن، ولم يبق أمام الجنرالات إلا الدموع، أو ما فعله وزير الحربية الياباني «كوريشيكا أنامي» فهو الانتحار على طريقة الهاراكيري ببقر البطن بالخنجر، أو محاولة الانقلاب كما فعل الضابط «كنجي هاتانكا» ففشل.

أما في «بوتسدام» فكان ترومان، كما وصفه تشرشل، شخصا آخر يتكلم بلغة يقينية، ويفرض الأوامر منتفخا كديك الحبش، بعد أن تلقى خبر القنبلة بالتلغرام رقم 32887: «العملية تمت هذا الصباح، التشخيص لم ينته، والنتائج فاقت التوقعات». وكانت توقعات المجرم «ليزلي غروفز» أن يكون عدد الضحايا 20 ألفا، ولكن مات 140 ألفا، ومن أصل 76 ألف منزل، احترق 70 ألفا ودمر، فقد كانت قنبلة ما تذر من شيء أتت عليه، إلا جعلته كالرميم، ولا يزال الموت يلحق الناس جيلا بعد جيل مثل اللعنة، من جراء الطاعون الذري، كما وصفه صحافي أسترالي يومها، من أمراض اللوكيما وسرطانات الدم والدرق والثدي والاعتلالات العصبية.

 

عودة إلى التاريخ

ماذا فعلت اليابان؟ في صبيحة يوم الخامس عشر من شهر غشت من عام 1945 توجه الإمبراطور «هيروهيتو» إلى شعبه، ليقول لهم بصوت رفيع متهدج، وبلغة أدبية منمقة، وبكلمات قليلة، ولكنها واضحة وفي منتهى القسوة والصراحة: «إن عدونا بدأ في استخدام سلاح في غاية الخبث، يمتلك من قوة التدمير ما لا عهد للإنسان به، وما لا طاقة لنا به!». وتابع الإمبراطور بيانه على الشعب الياباني في ذلك اليوم العصيب من تاريخ اليابان: «إنني أخشى يا شعبي الغالي أن استمرارنا في الحرب، يعني فناء الشعب الياباني بهذا السلاح الجهنمي الجديد». لقد أدرك الإمبراطور الياباني طبيعة العهد الجديد الذي دخلته الإنسانية، أكثر من كل العسكريين والسياسيين وآباء صناع السلاح الذري. فهذه القنبلة غيرت العالم، وغيرت التاريخ ومصير الجنس البشري، وغيرت التفكير الإنساني وهيكلته. ضربة واحدة فجرت معها عصرا جديدا؛ ودخل العالم حقبة جديدة. لقد ختم الإمبراطور كلمته: «عليَّ أن أقول لكم، إننا خسرنا الحرب وعلينا أن نتحمل ما لا طاقة لنا به!».

لماذا قال الإمبراطور ما قال؟ لقد عرف ما جرى تماما في صبيحة يومي 6 و9 غشت من ذلك العام النحس. كانت الساعة الثانية و52 دقيقة صباحا، عندما كانت القاذفة الأمريكية من نوع «29-B» تتحرك من جزيرة «تينيان» في المحيط الهادي باتجاه الجزر اليابانية، ومدينة هيروشيما تغط في نوم عميق، ولا تدري القدر الرهيب الذي ينتظرها بعد ساعات. يقود السرب الضابط «باول تيبتس»، وخبير الأسلحة «ويليام بارسونز». كانت الطائرة تحلق بارتفاع 1200 متر، عندما أعد بارسونز سيجاره وهو يربت على كتف تيبتس: علينا أن نبدأ الآن. كان الظلام يحيط بالطائرة، التي أخذت اسم والدة الطيار باول تيبتس، «أينولا جاي». كانت على متن الطائرة قارورة كبيرة تشبه أسطوانة الغاز الكبيرة ذات «أنف مبعوج»، ولا يزيد قطرها على 60 سنتيمترا، ويزن محتواها الأساسي حوالي 60 كيلوغراما من مادة اليورانيوم 235 المكثف، إلا أن وزنها بالغلاف الفولاذي المحيط بها قد ارتفع إلى أربعة أطنان. بجانب الطائرة «أينولا جاي»، حلقت طائرتان حربيتان أخريان، الأولى تحمل مخبرا كاملا لدراسة استخدام «السلاح الجديد»، والثانية تحمل أدوات التصوير للنار الجديدة التي ستشوي الناس بلظاها. في الساعة الثالثة و10 دقائق عمد بارسونز إلى إغلاق زناد القنبلة، بعد أن تأكد من قائمة التوصيلات المكونة من 11 نقطة، في هذه المهمة التي أخذت لقب «بعثة التدمير الخاصة ذات الرقم 13»، وهتف: كل شيء على ما يرام! عند الساعة الرابعة و55 دقيقة حلق التشكيل الثلاثي على شكل مقدمة سهم؛ تحتل فيه القاذفة النووية «أينولا جاي» رأس التشكيلة. سأل المساعد بوب كارون: هل سنشطر الذرة اليوم؟ علق تيبتس: لقد بدأتَ تفهم الأمور! حتى تلك اللحظة كان سلاحا سريا بدأ الضباط بتفهم طرف من أسراره، ولكن لا أحد عنده التصور عن قدرة التدمير! كانت مدينة هيروشيما قد بُرمجت للمسح من ملف الوجود، وكخيارات احتياطية فقد وضعت ثلاث مدن أخرى لترحيلها إلى العالم الآخر. إن هذا يحكي قصة الأقدار في مثل هذه الظروف، فلو تغير الطقس فوق مدينة هيروشيما؛ لربما استضاف الموت طوابير مدينة أخرى. عند الساعة السادسة و30 دقيقة بدأت الإعدادات الجنائزية لمدينة هيروشيما؛ فاستل بارسونز ثلاث وصلات خضراء اللون من القنبلة، ليضع بدلا عنها حمراء اللون، وبهذه الطريقة أصبح التيار الكهربي داخل الجهاز مغلقا، وأصبحت القنبلة بهذه الطريقة جاهزة لقدح الزناد. صرخ الضابط «باول تيبتس» للمرة الأولى بكل علانية، ليخبر طاقم الطائرة الذي علم الآن سر الرقم 13 لهذه البعثة التدميرية: إننا نحمل القنبلة الذرية الأولى في العالم على متن طائرتنا! عند الساعة السابعة و25 دقيقة صعد تشكيل الطائرات من ارتفاع 8000 قدم إلى 9500، ليسمع الأخبار الحاسمة من الرائد «كلود إيثرليس» الذي بثهم أخبار الطقس والقدرة الدفاعية ضد الطائرات، أو وجود طائرات معادية في الجو، صاح فيهم: يا شباب كل شيء على ما يرام… دمروا الهدف الأول على القائمة! وكانت هذه الكلمة تعني الحكم بالإعدام على 140000 من البشر. كانت القنبلة الذرية تفتتح فصلا جديدا في الحياة والموت، والناس في الأسفل ليس عندهم أقل تصور، لقصر المسافة بينهم وبين هوة الموت، التي فتحت فمها العريض لاستقبال جحافل الموتى بأبشع طريقة وسلاح.

ولكن أعجب ما حدث من ولادة السلاح الذري، أن الحرب وتاريخ الإنسان أخذا منعطفا جديدا، فحروب نابليون بين 1805م و1815م كلفت 775 ألف ضحية، ولكن مخطط الحرب قفز إلى 15 مليون ضحية في الحرب العالمية الأولى، ليصعد إلى 60 مليونا في الثانية، وبعدها لم تتكرر حرب عالمية، ولم يستخدم السلاح الذري، إلا تلك المرة مع كل التوترات التي حدثت في كوبا وكوريا. وحينما طلب الجنرال الأمريكي مك آرثر 20 رأسا نوويا، ليضع حدا للصراع المسلح في شبه الجزيرة الكورية عام 1950، ولم يمض على قنبلة هيروشيما أكثر من خمس سنوات، كلفه هذا منصبه، فالسلام كان أهم من حماقة جنرال.

وكما يقول مالك بن نبي القوة أنهت القوة، والحرب نسخت الحرب، فأصبحت شريعة مطوية، ومن فرن النار النووية ولد خبز السلام العالمي، وكانت الحرب الباردة فترة سلام طويلة، واليوم ودع العالم الحرب في الشمال، ولا نرى الحرب إلا بين المتخلفين أو لتأديب المتخلفين.

وفي كندا يوجد من النحل والملل ألف ضعف ما يوجد في كل الشرق الأوسط ولا يتقاتلون. ومن نزع الله من قلبه الفهم والرحمة فالحرب الأهلية في انتظاره. فهذه قوانين التاريخ، ومن يغفل عن سنن الله فإن سنن الله لا تغفل عنه.

 

نافذة:

القوة أنهت القوة والحرب نسخت الحرب فأصبحت شريعة مطوية ومن فرن النار النووية ولد خبز السلام العالمي وكانت الحرب الباردة فترة سلام طويلة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى