شوف تشوف

الرأي

يدفك جينوم نياندرتال

بقلم: خالص جلبي

 

قد لا يخطر في بالنا أن جنسنا ليس الوحيد الذي سار على الأرض، فنحن نسل متواضع، وحلقة بسيطة في سلسلة من «إنسانيات» وطأت الثريا تزيد على عشرة أنواع.

وإنسان نياندرتال هو الحلقة الأخيرة المختفية قبل 28 ألف سنة، ولا يستبعد أن يكون أجدادنا البواسل (كذا) من تطوع في إفنائه. 

والآن بعد فك جينوم الهومو سابينز «نحن» والشمبانزي، جاء الدور على جينوم إنسان «نياندرتال».

وتعود قصة هذا النوع من الفصيلة الإنسانية إلى عام 1856م، حين عثر عمال المقالع، بجنب مدينة دوسلدورف الألمانية في كهف، على بقايا عظام خالوها أنها لدب بري. حتى أصبحت علما في علم جديد، على إنسان جديد، وبذلك نشأ علم (الأنثروبولوجيا = علم الإنسان)، ومعه أصبح إنسان نياندرتال نجما عالميا، والجديد أن العلماء يعكفون حاليا على فك جينومه، لمعرفة القفزة النوعية بيننا وبينه وبين الشمبانزي، وما الذي جعل الإنسان الحالي إنسانا يخترع القنبلة الذرية ويهذي في الفلسفة، ويقتل في السياسة بدون جوع؟

شق الطريق للمعلومات الجديدة عظمان وعظيمان؛ فأما العظام فجاءت من كهف «فينديا Vindija» بكرواتيا، من إنسان نياندرتال عاش قبل 38 ألف سنة، وكهف المقالع من وادي نهر نياندر قرب دوسلدورف، حيث أعلن أستاذ الثانوية «فولروت FUHLROTT JOHANN» للمرة الأولى عن هذا الإنسان.

وأما العظيمان فهما الأمريكي «إدوارد روبن Edward Rubin»، حيث نشر أبحاثه في مجلة «الطبيعة والعلم»، معلنا عن فكه 65 ألفا من الأزواج الحامضية في الكود الوراثي.

والثاني هو «سفانتي بيبو Svante Paeaebo»، من معهد ماكس بلانك في «لايبزيغ Leipzig» ألمانيا الشرقية سابقا، والثاني من أصل كوبي، أتتبع أبحاثه بشغف منذ أكثر من عشرين سنة، وبدأ نجمه باللمعان في الضربة الأولى، من شق الطريق لعلم «حفريات الجينات Paleogenetic» في مومياء رمسيس، ثم استقطبته السويد، وأخيرا منح كرسي جامعي في أشهر معهد ألماني، حيث يطور أبحاث «الأنثروبولوجيا التطورية».

وهو مثل كل علماء الأنظمة الثورية، فقد فر الرجل من كاسترو ليستبدل جنسيته، كما فعلت أنا مع الجنسية الكندية، ويأمن على ذراريه من ظلال المخابرات، عن اليمين والشمائل بالغدو والآصال.

ولقد استطاع هذا العالم الدؤوب فك ثمانية ملايين من أزواج الأحماض النووية، ويأمل أن يفك كامل الكود الوراثي «ثلاثة مليارات» عند إنسان نياندرتال في مدى عامين، بالتعاون مع الشركة الأمريكية «علوم الحياة 454 454 Sciences Firma»، حيث يتم التقاط قطعة جين صغيرة في مفاعل صغير، مثل فقاعات الصابون، ويكاثرونها بنسخ لانهائية، لتقرأ على شكل متسلسل، وتقارن بسلاسل الإنسان والشمبانزي، حيث تبين أن الفروق بيننا وبينه لا تزيد على 1 في المائة، ولكنها كلمة الله في الإنسان الكلمة الأخيرة.

وخطة كشف الكود الوراثي قائمة على قدم وساق، لوضع خرائط تفصيلية عن جميع الكائنات من الجن والإنس والطير فهم يوزعون.

وأهمية هذا العمل أنه يمكن إعادة استنهاضهم من بطن القرون الخالية، كما كانت فكرة «جوراسيك بارك» الثورية عام 1994م، فقد تم إيقاظ الأوابد التي كانت تدب على الأرض قبل ثمانين مليون سنة، بأطنانها الثقيلة وأدمغتها القاصرة، كما هي في أنظمة الاستبداد البائرة، التي يهلكها الله ولا يبالي، ويمسحها من وجه الأرض لعدم صلاحيتها، كما مسحت الديناصورات فلا تسمع لهم ركزا.

والمشكلة التقنية في وجه العلماء هي ندرة هذه العظام وعدم نقاوتها، فقد ثبت مثلا كذب عظام الديناصورات لفيلم «جوراسيك بارك»، التي اختلطت بالمادة الوراثية من الإنسان، ولحسن الحظ فإن عظام كهف «فينديا» من كرواتيا اعتبرت عظام دب بري، فحفظت معزولة لوحدها، مما منحها نقاوة استفاد منها العلماء.

ويقول «ميخائيل هوفرايتر Michael Hofreiter» من معهد ماكس بلانك في لايبزيغ، إن تقلب الجو والرطوبة على مدى 50 عاما في متحف غير مكيف، يؤذي المخلفات، أكثر مما تفعله الكهوف الباردة في 40 ألف سنة.

وهو أمر يقرب إلى أذهاننا معنى بقاء أجسام فتية الكهف مصانة في مدى ثلاثة قرون، فإذا كانت السنة بألف سنة مما يعدون، فثلاثة قرون تبقى يوما أو بعض يوم، كما تخاطب أصحاب الكهف وهم يستيقظون من رقدتهم كم لبثتم؟ وكلبهم باسط ذراعه بالوصيد.

ويقول «هوفرايتر» إن درجة الحرارة 30 تحت الصفر، كما في القطب المتجمد الجنوبي، تحفظ الكود الوراثي بحالة سليمة مليونا من السنين، ولكن الحياة لم توجد ولا تتابع طريقها في القطب، بل الشرق الأوسط الدافئ، حيث تختلط المادة الوراثية وبقاياها مع الجراثيم والفطريات مثل كهوف الفراعنة، في ما يشبه الشوربة الوراثية وهو تحد ليس بالقليل.

وعلم الأنثروبولوجيا لم يتطور إلا في مناطق الجفاف الحارة، كما في إثيوبيا وتشاد وكينيا، حيث طوفان التخلف يحفظ طوفانا من عظام الآدميين بحالة سليمة، جعلت العلماء يشتغلون في جو حرارة جهنمي لاكتشاف إنسان «لوسي» و«أرديبيثيكوس راميدوس»، على يد «دونالد جوهانسون» و«تيم وايت».

وحاليا يتعامل «بيبو» مع 4 غرامات فقط من العظام السليمة من إنسان نياندرتال، بعد أن مسحوا «Screening» أكثر من سبعين عظمة من بقايا هذا الإنسان التائه في دروب التاريخ المنقرض.

ويحتاجون إلى 20 غراما من عظام أصلية، وهو ما سوف يدفعهم إلى أن يرجعوا إلى الكهف الكرواتي، فالصرب والكروات بارعون منذ تلك الأيام في شرب الدماء، وأكل لحوم بعضهم.. فقد كانوا كانيباليزم.

ومذابح البوسنة شاهد على هذه النزعة الإجرامية، التي تفيد في أبحاث إنسان نياندرتال، الذي كان يقتات على لحم إخوانه، ويلقي العظام منهوشة اللحم، مما يساعد على حفظها في الكهوف الباردة؛ فلم يبق مكان للجراثيم والخنافس والصراصير والذباب الأزرق ليقتات من اللحم. 

وهذه من سخرية التاريخ والأنثروبولوجيا، أن الوحشية خدمت العلم بكيفية غير متوقعة.

 

نافذة:

أصبح إنسان نياندرتال نجما عالميا والجديد أن العلماء يعكفون حاليا على فك جينومه لمعرفة القفزة النوعية بيننا وبينه وبين الشمبانزي

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى