يخربون الحاضر والمستقبل
أطرف ما قرأت بعد إعلان وفاة الرئيس الأوزبكي إسلام كريموف أن متحدثا باسم الحكومة شكك في صحة الخبر بعدما تعذر عليها أن تحصل على تأكيد الرئيس له.
وهي مزحة عميقة الدلالة، لأن الرئيس الراحل ظل طوال 27 عاما رمز الدولة والمصدر الأول لأهم أخبارها، وبالتالي فإن المواطن الأوزبكي كتب عليه ألا يصدق سوى كلام الرئيس، وأن يشكك في كل ما لم يصدر عنه.
فهو كما ذكرت بطانته قدر أوزبكستان وزعيمها وفيلسوفها الأوحد، الذي به ولدت أوزبكستان من جديد، وعرفت طريقها إلى الاستقرار والنمو وصارت في إعلامهم تتصدر الأمم الآسيوية.
قصة الرجل الذي تأكد موته عن 78 عاما يوم الجمعة الماضي تقدم نموذجا جديرا بالدراسة ومليئة بالعبر، من حيث أنها تمثل فصلا تكرر في سيرة كل مستبد تجبر واستأثر بالضوء طوال سنوات حكمه، كما ألغى المعارضة السياسية واستبدلها بأخرى مزورة رفعت راية المعارضة لكنها ظلت مرتمية في أحضانه طول الوقت.
اسمه الحقيقي إسلام عبد الغني كريم، لكنه عرف طول الحقبة السوفييتية باسم إسلام عبد الغنينوف كريموف، من مواليد سمرقند عام 1938.
وقد التحق بالحزب الشيوعي بعدما درس الاقتصاد والهندسة، وانتخب عام 1989 سكرتيرا أول للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي في أوزبكستان، ثم انتخب بعد سنتين (عام 1991) ليكون أول رئيس للجمهورية.
لكنه بعد سقوط الاتحاد السوفييتي سارع إلى إعلان استقلال بلاده وانفصالها عن الاتحاد. حينذاك خلع ثوب الحزب الشيوعي وارتدى بسرعة ثوب الحزب الليبرالي الديمقراطي، وترك الأممية ليلتحق بالوطنية والقومية.
وعلى طريقة «الأسد إلى الأبد» فإنه استبق وقرر أن يفرض نفسه باعتباره رجل الأوزبك الذي لا يفنى وإنما تتجدد حينا بعد حين بالقانون والشرعية، والمؤسسة الأمنية قبل الاثنين.
في استفتاء نظمته أجهزته في عام 1995 مدد الزعيم المعجزة صلاحياته رئيسا للبلاد حتى عام 2000. ثم أعيد انتخابه لثلاث فترات إضافية كان آخرها في شهر مارس عام 2015.
ولاستكمال الشكل الديمقراطي فإن الرجل سمح للمعارضة أن ترشح منافسا له اسمه عبد الحافظ جلالوف، وطبقا للسيناريو فإن الرجل مني بهزيمة ساحقة، حيث صوت 91٪ من الناخبين لصالح كريموف، ولم تكن هذه هي «المفاجأة» الوحيدة، لأن المفاجأة الأخرى أن منافسه و«خصمه» السيد جلالوف صوت لصالحه، وتباهى بذلك بعد إعلان النتائج قائلا إنه نافس الرئيس الفلتة ترسيخا لمبادئ الديمقراطية في عهده، لكنه لم يجد أفضل منه فصوت لصالحه!
لعب كريموف بكل الأوراق، فهو نصير الطبقة العاملة في المرحلة السوفييتية، وهو الزعيم القومي بعد سقوط الاتحاد السوفييتي. وهو الديمقراطي الذي ينتخبه الشعب في كل استفتاء.
وهو المحارب للإرهاب بعد أحداث شتنبر 2001. وهو حليف واشنطن بعد الغارة التي استضاف بعدها قاعدة أمريكية في بلاده إسهاما في الحرب العالمية ضد الإرهاب.
وهو منقذ البلاد من الإرهاب الإسلامي بمذبحة «أنديجان» التي أباد فيها سبعة آلاف من المتظاهرين المعارضين عام 2005. وهو رجل الاستقرار بعد الاستقلال، الذي قضى على المعارضة حتى أصبحت أوزبكستان بلا سياسة ولا معارضة.
الذين رفعوا شعار كريموف «قَدَر» أوزبكستان، وهتفوا لبقاء المنقذ إلى الأبد، يواجهون الآن مشكلة، حتى أصبحت بلادهم في مهب الريح. فالرجل حين أمات السياسة وأباد معارضيه لم يدمر الحاضر فقط وإنما دمر المستقبل أيضا.
ذلك أنه لم يبق على منافسيه في حياته، ولم يتح لأحد منهم أن يظل قيد الحياة بعد مماته. هم يواجهون الآن مشكلة خلافته وبعده ظل «الأوحد» طوال 27 عاما.
ومأساتهم أنه لم يبق إلا على نظائره، بحيث أصبحت السلطة حكرا على كريموف الثاني والثالث وغيرهما.
إن الطغاة يتناسخون ويتوهمون أنهم يصنعون التاريخ، وينسون أن استبدادهم يخرج البلاد من مجرى التاريخ.