يامات الإضراب.. وأجيال الشهادات الطبية
عندما يأتي الإضراب، ترحل المطالب ويعود كل شيء إلى أصله في اليوم الموالي. هذا للأسف ما يحدث في المغرب. طيلة عقود، تحول الاضراب إلى رياضة جميلة يمكن ممارستها بعد وجبة الإفطار أو بعد الغداء، حسب برنامج المشاركين. بإمكان الزعماء السياسيين الذين يتزعمون النقابات أن يخطبوا في اليد العاملة ويبيعونهم الشعارات ويطالبون معهم بإسقاط الفساد، وفي المساء يشربون معه قهوة أو شاي حسب البرنامج دائما، ويخبرونه أن ينام قرير العين لأن العمّال لا زالوا يخططون لإضرابات مقبلة فقط.
الإضراب مناسبة لكي يتغيب الموظفون الكسالى عن الإدارات، وينامون بدل النزول إلى الشارع في الغد. فيما ينفس الغيورون عن غضبهم على الأقل، عندما يحملون الشعارات المكتوبة بخط اليد وصور رئيس الحكومة وعليها علامة حمراء كبيرة تدل على الرفض والمطالبة بالرحيل أيضا، ما دامت المطالب الحقيقية التي يدعون إليها بعيدة تماما عن آجال التطبيق وعن طاولة الحكومة أيضا.
أغلب النقابيين اليوم يتفرغون للعمل النقابي، وهكذا أصبحت جل فروع النقابات الوطنية مرتعا للعاطلين بحجة التفرغ، وبدل أن يعملوا بإخلاص لكسب قوتهم وقوت أبنائهم، تجدهم ينامون في المكاتب داخل فروع النقابات ويعقدون الاجتماعات كلما استيقظوا ليبرروا مصاريف الشاي والقهوة والحلويات التي تقتنى بأموال انخراط العمال المساكين في النقابة.
لدينا في المغرب مشكل حقيقي يتمثل في فهم الناس لمعنى العمل. الحزب الحاكم، الذي يتبجح اليوم بمحاربة الفساد، ويتحدى المغرب والمغاربة بأن يأتوا بملف واحد يثبت تورط رئيس الحكومة في سرقة درهم واحد من أموال المغاربة، نسي أن هناك المئات إن لم نقل الآلاف ربما، من أبناء حزبه والمحسوبين عليه، غادروا مكاتبهم وإداراتهم وتفرغوا للعمل النقابي والحزبي. وهذا، بالنسبة للذين لا يفهمون، يعني أنهم يريدون الحصول على أجورهم من الوظيفة العمومية لكنهم غير مستعدين للعمل من أجل استحقاقها.
كيف يريد أبناء الحزب الحاكم محاربة الفساد وهم يغادرون وظائفهم مع الدولة من أجل التفرغ؟ كيف يمكن مثلا أن تصلح التعليم والأطر تغادر، إما في إطار المغادرة الطوعية، أو لعبة التفرغ للعمل الحزبي؟
إذا كان هذا العمل الحزبي هو إصلاح القطاعات والنهوض بجودة التعليم والصحة، فإن مكان هذا «السياسي» هو مكتبه حيث عليه أن يعمل جديا لمحاربة رداءة التعليم والهدر المدرسي، وأن يلازم غرفة العمليات ليقف بنفسه على إجراء العمليات الجراحية، أو أن يلازم مكتبه في الإدارة للسهر على تلبية خدمات المواطنين حتى لا تتقادم ملفاتهم وتأكلها الزواحف في أقسام الأرشيف. هذا ما يجب على الذين يدعون اليوم للإصلاح أن يقوموا به، وليس أن يغادروا العمل بدعوى التفرغ الحزبي، ليطالبوا بالإصلاح في الاجتماعات والبيانات المملة.
هذا المشكل ليس جديدا على كل حال، فأصله يعود إلى الأيام التي كان فيها موظفو القطاعات الحيوية ينخرطون أفواجا في حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية وبعده في حزب الاتحاد الاشتراكي، حيث كانوا يخطبون في الناس ويتحمسون أكثر من اللازم لمحاربة الفساد، وأول ما قاموا به هو مغادرة وظائفهم ليحصلوا على أجور بدون وجه حق، ويتفرغوا لصياغة البيانات النارية، بدل الجلوس أرضا وتنشئة جيل جديد من المغاربة بعيدا عن الريع واستغلال المناصب.
لم تعد الإضرابات ترهب أرباب المصانع الذين يعتبرون الآلات أهم من البشر. لم تعد الإضرابات مغرية، خصوصا وأن فطاحلة النقابات تذوقوا «الكافيار» وفواكه البحر وأصبحوا يعرفون رائحة جلد المقاعد الوثيرة داخل السيارات المكيفة، بعد أن كانت الرائحة الوحيدة التي يعرفونها هي رائحة علبة السجائر الزرقاء التي يدخنها المسحوقون.
قد يتوقع الخبراء أن يكون الإضراب مؤثرا، وقد يقللون من شأنه، فالأرقام لا دور لها في هذه المعادلة. قد تنزل الملايين إلى الشارع لكنها تكتفي برفع الشعارات والتوجه إلى الصيدليات في نهاية اليوم للحصول على دواء ضد «جروح» الحنجرة. وقد ينزل الآلاف فقط، لكنهم، على الأقل، يعرفون ماذا يريدون.
رحم الله أياما كان فيها العمال ينزلون إلى الشارع لانتزاع المطالب، ويعودون إلى المصانع والمدارس في اليوم الموالي. بدل هؤلاء الذين ابتُلينا بهم، فإما أن يكونوا محزبين يسلكون طريق النقابات للفوز بحقهم في الريع الذي يشل البلاد، أو يستغلوا أول مناسبة لوضع شهادة طبية فوق مكتب المدير، حتى أن المسار المهني للكثيرين يعج بالكثير من الشهادات.. الطبية بطبيعة الحال. الإصلاح لا يصنعه أصحاب شهادات الزور، عليكم أن تعودوا إلى وظائفكم أولا.