ياسر عبد العزيز
لم يكن هناك اختلاف بين قطاعات واسعة من الباحثين والمحللين وأفراد الجمهور أيضا على أن التغطية الإعلامية الغربية للعمليات العسكرية في غزة، خصوصا في الأسبوع الأول من اندلاعها، كانت حافلة بالكثير من الأخطاء والانحيازات التي شخصتها الأكاديميات وأدلة الممارسات الرشيدة في مجال الإعلام المؤسسي المهني.
ولم يكن من الصعب أبدا إثبات تلك الانحيازات، خصوصا ما يتعلق منها بتغييب السياق، عبر تقديم النزاع كما لو أنه بدأ يوم 7 أكتوبر، من خلال شن «حماس الإرهابية هجمات إرهابية ضد المدنيين الإسرائيليين»، وما نجم عن ذلك من «قتل 1200، وأسر 240، أو احتجازهم كرهائن».
كان من السهل جدا سبك تلك السردية التي تبدو سهلة وواضحة وقاطعة في الإيحاء؛ إذ يشن «فصيل إرهابي» هجوما على «مدنيين يحضرون حفلا موسيقيا»، بموازاة أخبار أُشيعت آنذاك من دون أي قدر من التدقيق، عن «ذبح أطفال»، و«اغتصاب نساء»، و«استباحة المساكن الآمنة».
شاعت تلك السردية المنحرفة بكل سهولة بين أوساط الإعلام الغربي، وتناقلها الوسطان «التقليدي» و«الجديد»، بمصاحبة صور وفيديوهات، بعضها مختلق ومفبرك، وهو الأمر الذي أسس لممارسة معوجة ومنحازة، انطلقت إسرائيل تحت غطائها في عملية وُصفت بأنها «إبادة جماعية»، تعتمد القتل والتشريد المنهجيين لسكان غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة.
استغرق الأمر أسابيع، حتى انتبه العالم إلى السياق المُغيب، خصوصا عندما تحدث الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيرتش عن أن هذه الحرب «لم تأت من فراغ»، وأنها أعقبت عقودا من طرد الفلسطينيين من أراضيهم، وحبسهم في أكبر سجن مفتوح في العالم، وتجويعهم، وحصارهم، وإخضاعهم لسياسات المحتل الإسرائيلي. وفي ظل تلك السردية جاء الانحياز الإعلامي الغربي، الذي دعمته حكومات وأحزاب سياسية، أظهرت في بداية الأحداث ميلا قاطعا لتبني الرواية الإسرائيلية، وموافقة واضحة على «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها»، وراح يتفنن في ممارسة أنماط مختلفة لدعم الرواية السائدة.
لطالما تعرض الإعلام الغربي للنقد والهجوم على مدى عقود خلت؛ وقد حدث ذلك مبكرا جدا حين ظهر الانحياز السافر لمصلحة إسرائيل في صراعها مع العرب في المقاربات الإعلامية الغربية، وحين تم تحصين هذا الانحياز بقوانين وقواعد تحت لافتة كبيرة براقة اسمها «معاداة السامية».
ورغم ذلك النقد والهجوم، الذي استند في بعض الأحيان إلى ذرائع وجيهة وتمتع بأدلة دامغة، فإن هذا الإعلام الغربي لم يفقد الكثير من بريقه وتأثيره، بل ظل في مفاصل عديدة قادرا على الإلهام، خصوصا عند تحقيق الاختراقات الكبرى في كشف وقائع الفساد، وعند التصدي لنقد النظم الغربية وكشف ما قد تنطوي عليه من عوار.
وفضلا عن ذلك، فقد تحولت الممارسات الإعلامية الرشيدة التي انطوى عليها الإعلام الغربي إلى أدلة ومعايير انتظمت في مساقات أكاديمية، وطورت ميراثا كاملا من القواعد ضمن ما عُرف بـ«التنظيم الذاتي»، وهو ميراث ظل منهلا للتعلم والتطوير في مناطق مختلفة من العالم ومنها منطقتنا بطبيعة الحال.
لكن الإعلام الغربي تلقى عديد الضربات أخيرا، وهي ضربات أثرت تأثيرا واضحا في مصداقيته وقدرته على الإقناع، وقد توزعت تلك الضربات على مساري الإعلام «التقليدي» و«الجديد»، حيث تورطت منابر إعلامية عديدة في المسار الأول في انحيازات حادة، وأظهرت ميولا عنصرية في تغطية الحرب الروسية- الأوكرانية، ثم في حرب غزة، ومن جانب آخر فإن وسائل «التواصل الاجتماعي» التي تُدار بواسطة شركات غربية كبرى، وتخضع لمتابعة قانونية من الحكومات والمؤسسات التشريعية في الغرب، تورطت بدورها في أخطاء لا تحصى.
من بين تلك الأخطاء ما يتعلق بشيوع المعلومات الزائفة والتضليل، وانتهاك الخصوصية، وإثارة الكراهية، فضلا طبعا عن الدور السلبي الخطير الذي لعبته في مواكبة أزمة جائحة «كورونا»، إلى حد أن تلقت اتهامات أممية بمساهمتها في مفاقمة مخاطر الجائحة وتعويق عمليات الوقاية.
لقد استدعت تلك التطورات مراجعة لافتة في الجسم السياسي والثقافي والإعلامي الغربي، وظهرت علامات على اعتراف بهذا العوار الذي ضرب المنظومة الإعلامية بمساريها الرئيسيين، ورغم أن تلك المراجعة لم تثمر التغير الجوهري المأمول في هذا الصدد، فإن الاعتراف بالخلل يبدو مهما وضروريا، وربما يعزز الأمل في محاولات جادة لتجاوز هذا القصور.
نافذة:
لطالما تعرض الإعلام الغربي للنقد والهجوم على مدى عقود خلت وقد حدث ذلك مبكرا جدا حين ظهر الانحياز السافر لمصلحة إسرائيل في صراعها مع العرب