ويَضيعُ الرملُ في الرمل..
لنترك الأسئلة الثقافية العميقة التي أدت لنحت مفهوم التمييز الإيجابي في النصف الثاني من القرن العشرين، لأننا نحسب أننا بعيدون سنوات ضوئية عن ذاك الزمن الجميل.. ولكن لنفكر في الصيغة التي تمت بها مغربة مسألة التمييز الإيجابي، ومساءلتها، سيما وأن ما يجري الآن من صراعات «مسترجلة» في صفوف نساء الأحزاب للحصول على رتبة تضمن مقعدا برلمانيا، يؤكد بالملموس أن التمييز الإيجابي لم يعد مجرد صيغة مؤقتة لكسر الحواجز الثقافية والنفسية التي تمنع مشاركة المرأة في الحياة العامة، كما تقول بذلك نسائيات ما قبل التسعينيات، وأغلبهن لم يعدن بيننا الآن، لكونهن توارين للوراء أو خطفهن الموت، تاركات المجال لصنف آخر من النسائيات «بنات الوقت»، اللائي اتخذن من خطاب المرأة مهنة للاغتناء وتحقيق ارتقاء اجتماعي لم يكنّ ليحققنه بـ«قلة العلم» الذي حصلنه طوال مسارهن المجهول..
قلنا لنترك هذا الأمر جانبا، ويجدر بنا أن نتركه، حتى لا نصاب بالذبحة الصدرية، ولنفكر في التجربة الفعلية لـ«الكوطا» عندنا، خاصة خلال الخمس سنوات الماضية، والتي عرفت تبني نوعين من «التمييز الإيجابي» على المستوى السياسي: الأول رفع لائحة النساء إلى ستين امرأة، والثاني تبني لائحة الشباب واستفادة ثلاثين شابا منها. والأهم هو الاكتفاء بتطبيقه في مجلس النواب فقط، دون تطبيقه في الحكومة نفسها، حتى لا نتكلم عن الوضع في الإدارات العمومية.
ولنتساءل: هل تمثل ستون امرأة اللائي أنهين هذا الشهر بشكل رسمي مسارا برلمانيا امتد لخمس سنوات، هل يمثلن نساء المغرب فعلا؟ هل تكلمن باسم قضايا المرأة المغربية في مدن الصفيح والعالم القروي؟ هل تكلمن باسم النساء اللائي تهان كرامتهن على أبواب سبتة ومليلية من أجل لقمة العيش؟ هل تكلمن باسم النساء اللائي يعانين من «فقر الجيوب» و«فقر العقول» ولا مبالاة الدولة في جبال خنيفرة وإيفران وأزيلال وبني ملال؟ هل تكلمن باسم النساء اللائي يعانين من الابتزازات والتحرشات والاعتداءات في المعامل والمقاولات؟ هل تكلمن باسم النساء اللائي يحرمن من الميراث نهائيا في أغلب قبائل دكالة وعبدة والشياظمة؟ هل تكلمن باسم آلاف الطفلات اللائي يشتغلن في البيوت والمحلات التجارية دون حقوق؟ ثم ما هي القيمة المضافة فعلا لتواجد ستين امرأة، بعيدا عن «البراباغوندا» التي لا يستفيد منها في الأخير إلا «فحول الأحزاب»؟ ماذا فعلنه حقيقة لتحسين صورة المرأة في الإعلام مثلا؟ ثم ماذا يعني اعتماد «مبدأ التدوير» داخل الجزء الأكبر من اللوائح النسائية للأحزاب، أي مبدأ «كولي شوية وخلي لاختك تاكل حقها»؟ هل هذا هو المعنى الذي صاغ به متنورو ومتنورات الستينيات والسبعينيات والثمانينيات في أوروبا مفهوم التمييز الإيجابي؟
وبخصوص لائحة الشباب، لماذا لم يحتج رئيس الوزراء الكندي الجديد، الشاب «جاستن ترودو» لـ«كوطا» ليحصل على ثقة حزبه ومن ثمة ثقة شعبه؟ هل تعطي هذه اللائحة حقيقة أن الأحزاب يحكمها شيوخ مستبدون؟ أليس هذا هو الهدف الحقيقي للائحة؟ ثم ماذا يعني تعيين أبناء كبار شخصيات الحزب وممولوه وتهميش المناضلين باسم الحزب ذاته في الجامعات والجمعيات التابعة للحزب؟ والأهم، على أي معيار تم تحديد سقف أربعين سنة حدا أقصى للائحة الشباب؟ ثم أخيرا وليس آخرا، ماذا استفاد ملايين الشباب المغربي من تواجد ابن زيد «الاشتراكي» وابن عمرو «الإسلامي» وابن طلحة «المخزني»؟
كل هذه الأسئلة تؤدي في مجملها لرسم مشهد مغربي تحريفي، يتم فيه استيراد أفكار ومفاهيم ومناهج حية، ويتم وأدها بإفراغها من بعدها الثقافي والفكري، وتصبح مجرد شكل من أشكال الريع، أي تصبح مجرد «رمل وضع على الرمل» كما قال درويش رحمه الله.