ونحن في انتظار موجة الصقيع المقبلة 2.1
عبد الرزاق الحجوي
تتحكم الثقافة في كل شيء، لكنه لا ينتبه إلى أمراضها وعللها لأنها غالبا محل فخر واعتزاز، خصوصا لدى المجتمعات الفقيرة لأنها أكثر حساسية في تقبل النقد وأبعدها عن جني ثماره، لذلك فشلت كل محاولات التطوير والتقدم تلك التي لم تبذل جهدا ثقافيا، بالموازاة مع الجهد العملي والمادي. فمن مميزات سلوكيات كثير من المجتمعات التراخي والخمول، لتتجمع وتنمو الأزمات والمشاكل بأريحية سفح الجبل، وما أن تقفز عينة ما إلى القمة حتى تتجند لها السواعد والحملات، رسمية وشعبية، لتتصدى لها وتضج الشبكات الاجتماعية بالشجب والإدانة، بسرعة وقوة تبشر كل لبيب بأن مآل هذه التحركات سينتهي إلى الخبو والفتور، لأن سرعتها ووتيرتها غير طبيعيتين فتستحيل استدامتها. نعم، طبيعي أن تتزعزع كل المجتمعات شرقا وغربا أمام حدث مميز أو فاحش، لكن الفرق بين مجتمع وآخر، بين ثقافة وأخرى، هو في نوع الأداء وفي معدله خارج تلك المناسبات، فأداء المجتمعات المتقدمة خارج المناسبات لا يقارن مع نوع ومعدل أداء المجتمعات النائمة.
إننا نقبل بضغط دائم لحياتنا اليومية داخل البيت، أغنياء وفقراء، ونخصص أفضل وأكبر مساحة من هذا البيت لبعض المناسبات فقط، لأننا لا نقبل أن يكون أداؤنا أقل من درجة مترف في تلك المناسبات، أما باقي الأيام فلا إشكال في تضييع نمط أفضل وجودة أعلى في هذه الحياة، فقط لو استسغنا بأن ينظر إلينا الغير بأننا أناس عاديون. فحين تعجز أن تتقبل بأن ينظر إليك الآخر في مستواك الطبيعي، فقد استشرى المرض في ثقافتك إلى ما وراء رؤية المنظار،لأن حامله نفسه متفوق عليك في مثل هذا الخيار فهو ابن الثقافة نفسها، أعلا أم استوى شأنه واختصاصه.
إنه داء الاختزال في عدة صور والذي يحاكي نوعا من الاحتيال على النفس، حيث نختزل راحتنا في ملاحظة جيدة للآخر، الذي ندفع مقابله أضعافا فاحشة من راحتنا اليومية، ونشعر بالارتياح بدعم قضية ما بعد المشاركة في مظاهرة بالشارع، فالتظاهر عمل جيد، لكن ما الذي نقوم به في باقي الأيام لدعم تلك القضايا التي كل منا يتبنى نوعا منها؟ فكيف نكتفي بالتصدي للظواهر المقيتة فقط عندما توثق عملية ما بالفيديو أو بالصورة؟ لنهادنها بعد ذلك مع علمنا بأن الذي لا يوثق هو أكبر وأدوم بكثير! نعم، لن تستطيع ثقافة ما القبول بالنوم دوما، لذلك تحتال على نفسها بالاكتفاء بالتحرك بقوة وبضجيج غير طبيعيين عند المناسبات، هذه الخلفية الثقافية نفسها هي التي تمنعنا من هندسة بيوتنا على أساس راحتنا وسعادتنا اليومية. إننا لا نحتاج سوى إلى التدقيق والتنقيب في طيات خياراتنا، وجدوى فلسفتنا في الحياة لا أقل ولا أكثر، وهو ما يقف تدشينه على إطلاق ثورة ثقافية بنفس طويل لعلاج تلك الجذور العميقة، التي ترسخ داء السطحية في التعامل مع الحياة مع الآخر ومع المشاكل، وتدفعنا إلى التركيز غير المعتدل على تلميع الواجهة التي ندفع لها بأريحية وبالإجماع كل ما نملك من قوة ومن اهتمام، بدل أن نوزعه باعتدال وبدل أن نكتفي بالأنا العادية التي هي الأصل، فالتميز مطلوب في أداء هذه الأنا ودورها في الحياة، وليس في لمعان وسعر غلافها.
لقد أطلق المؤثرون الاجتماعيون عند آخر قرار، قبل شهور، لإغلاق المقاهي، حملة للتبرع للنادل مقابل شهر من قيمة كأس قهوة كل يوم، فصور العديد منهم تركه لثلاثمائة درهم كبقشيش للنادل، حملة أغفلت غاسل(ة) الأواني ومنظف(ة) المحل وعاصر القهوة، رغم أن دخلهما أقل بكثير من النادل لكنهما لا يوجدان في الواجهة. وفي موجة الحر الحالية ظهرت موجة توجيه جديدة من هؤلاء المؤثرين للتبرع بالماء البارد للدرك، ولكل من اضطر إلى العمل تحت الشمس، رغم أن حاجة شرطة الطرق تلبى صيفا وشتاء من سائقي سيارات الأجرة، ورغم أن للمداومين على العمل تحت الشمس حلولا لمسألة الأكل والشرب، لكن هؤلاء موجودون على الواجهة وليست تلك الأسر التي لا تملك ثلاجة، ومعاناة سكان القصدير مع الحر والقر والمطر، والدواوير النائية التي يبعد عنها مصدر الماء بعدة ساعات، حيث نجحت بعض الجمعيات النشيطة في بلوغ معدل حفر بئر كل يوم.