مشكلة الدكتور فريد الأنصاري رحمه الله مع حركة التوحيد والإصلاح لم تكن مشكلة شخصية بقدر ما كانت مشكلة مع “عقلية” معينة، ومع “تيار” معين فيها، “له أسلوب في العمل لا يقره خُلُقٌ ولا دين، وكانت له السيطرة على كل شيء مع الأسف”، كما خط المرحوم بيده.
فكانت أفكار الدكتور فريد تواجه “بالغمز وباللمز أحيانا، وبالسخرية الصارخة الصريحة أحيانا أخرى”، وبألفاظ رديئة سوقية قال عنها إنها “ما زالت بوائقها تصخ في أذني ولذلك فكم كنا نشعر عندئذ بالانهيار، لقد واجهنا منهجا عجيبا غريبا في الحوار ومدافعة الأفكار، هو منهج تحطيم المعنويات من أجل الانتصار، دون مناقشة حقيقية لما عُرِضَ من قضايا وأفكار”.
وبتأثر وأدب كبيرين خاطب الدكتور الأنصاري شاتمه الريسوني قائلا “عشنا غربة روحية ونفسية داخل الحركة ولم نستطع التكيف مع رموز المناورة، فالمقرات مقراتهم، والولاء ولاؤهم والأتباع جنودهم ولا شيء يكون إلا بإذنهم.
يا سيدي أحمد، إذا لم تجد أنت ذلك فنحن قد وجدناه، وإذا لم تره أنت فنحن قد عشناه وكابدناه، فأرجوك لا تصادر أحزاننا بغضبك الرهيب، فإذا لم تدعنا نتكلم فدعنا على الأقل نتألم، يا سيدي أحمد”.
ولذلك فعندما يقول الأمين بوخبزة للقيادة العامة للتنظيم بأن تتدارك الحزب لأنه أصبح على شفا جرف هار فإنه لا يفعل غير قرع جرس الإنذار ذاته الذي قرعه قبله الدكتور فريد رحمه الله، عندما قال واضعا أصبعه على الجرح “بعيني رأيت الصراع على المواقع والمسؤوليات على الصعيدين الوطني والجهوي، بما أدخلنا غير ما مرة في حمى شديدة من الاتهام والاتهام المضاد، في مهزلة ما كنا نسميه ظلما وعدوانا بالجرح والتعديل.. ورأيت الأنانيات المقيتة تقاتل بضراوة، والاستعراض السافر للعضلات على الإخوان والأخوات، كل ذلك على الصعيد الوطني والجهوي سواء.
ورأيت الكبرياء الشديد يطأ شعور البسطاء منا في صلف عنيد، فإذا كنتَ أنت يا سيدي تطيق ذلك كله بما آتاك الله من تقريب وتغليب فهنيئا لك، أما نحن فلم نطق من ذلك شيئا، ولم نَسْطِعْ هضمَه ولا قبوله سلوكا بين الإخوان لبناء حركة الإيمان، ورأيت بعيني ما بين الحركة والحزب من يؤصل لفقه الانحراف في الأخلاق والسلوك، ويتحدث من أجل ذلك عن مبدأ فتح الذرائع، وهو أمي في علوم الشريعة، جاهل بأصولها وفروعها، فَيُوَطِّنُ الإخوانَ والأخوات على لين الدين وضعفه في أخلاقهم وصلواتهم، بأحكام شرعية ما أنزل الله بها من سلطان، وصنعوا بذلك مدرسة وتيارا على الصعيد الوطني، ووالله لقد فتحوها فتحا فدخل علينا الفساد من كل باب، وإني لأذكر الصراع الذي دار في المكتب التنفيذي بين بعض القيادات السياسية، وبين بعض القيادات الجامعة ما بين الحركة والحزب وحصل تنابز وصل بالنسبة لي إلى حد لا يطاق، فكان ذلك لي دمارا نفسيا وانهياراً، وكان من حالي ما الله به عليم، فلم أستطع النطق بكلمة، كان المشهد أشد من أن أتحمله (…) لقد صبرتُ يا سيدي زمنا ليس باليسير، وحاولتُ الإصلاح من الداخل لكن دون جدوى، وراهنتُ على حُلم، لكنني خسرت الرهان في نهاية المطاف، ثم تصنفني بعد ذلك مع الهالكين المهلكين، وتتكرم على أصحابك بمقام أهل بدر، فتقول لهم اعملوا ما شئتم فقد غفر لكم، ألا هكذا يكون العدل والإنصاف وإلا فلا، وإذ إنني لم أنقطع عن التدريس، ولا عن زيارة المواقع الجامعية هنا وهناك، ولا عن ملابسة قضايا العمل الإسلامي على مستوى القواعد في المجتمع فإنني أعاين مدى الانحراف الرهيب الذي آل إليه الوضع التربوي للحركة، والانجراف الحاصل نحو السقوط الأخلاقي، بسبب طغيان السياسي، والإلقاء بالبرامج التربوية في رفوف النسيان.
فلو تفقدتَ يا سيدي المواقع هنا وهناك، بشرط ألا تعتمد تقارير جاهزة ومنمقة، لرأيتَ بعينك مستوى ما صرنا إليه في ما بيننا من الغش والتزوير، والحلف على الكذب، والسب واللعن، وبأقذع العبارات أحيانا، للإخوان في ما بينهم في سياق الصراع الداخلي الجاري الآن من أجل لوائح انتخابية ومناصب مرتقبة.
نعم، نحن الذين نقدم للناس منتوج “الأمانة” إن هذا الأمر قد تواتر واستفاض بيننا، وكثير من الإخوان يعرفون جيدا أنَّ مَا أجملتُه إجمالاً له تفصيلات وقد وقع العتب عليَّ شديداً لَمَّا أبديتُ منه إشارات، بسبب إشفاقهم من ظروف الانتخابات، التي ضخَّمها بعضُ أحبتنا حتى كادوا أن يلحقوها بالأشهر الْحُرُمِ.
فهلا كلفت نفسك يا سيدي زيارة مواقع هؤلاء الذين نعدهم مجاهدين في سبيل الله، ونعرفهم رُكَّعاً وسجودا كما وصفتهم في الحلقة الرابعة من مقالاتك ؟ أم أن العلم قد سبق عندك بالبراءة التامة والغفران الشامل.
يا سيدي أحمد، إن ثمة انحرافا خطيراً في صلب المنهج، انحرافا يستحق وقفة حقيقية للمساءلة والمراجعة، وقفة أقل ما نستفيد منها أن نعرف هذا الأنصاري إذا كان قد جُنَّ فكتب ما كتب، فسنتمكن من معرفة السبب، عسى ألا يبتلي الله الحركة بمثله في مستقبل الأيام.
والعجيب أن هذا الذي عيب عليَّ من الاتهام أمر تعترف به الورقات الرسمية للحركة اعترافا، ففي نص “الرؤية التربوية” المنشور أخيرا، جاء تحت عنوان: “الواقع التربوي للحركة”، ذِكْرٌ لمجموعة من الإيجابيات التي أعرف أن بعضها حبر على ورق، وذكر مجموعة من السلبيات التي أرجو أن تقارنها مع مقام “المجاهدين السُّجَّدِ الرُّكَّعِ” كما زعمتم، وهو النص التالي: “رصد مجموعة من الآفات التربوية، وعجز الحملات التربوية عن إزالتها، مثل التهاون في حضور الصلاة في المسجد، والقيام لصلاة الصبح بانتظام، وعدم استثمار الأوقات، وإهمال الأسرة، وترك الدعوة، وعدم احترام المواعيد، تراجع في مستوى الجندية والتضحية، وإسراف في ممارسة الحرية على حساب الوفاء بالالتزامات، والقيام بالمسؤوليات، وأداء الواجبات والتكليفات، ضعف التحصيل العلمي وفقدان صفة طلب العلم، وتراجع أو توقف الكثيرين عن النظر في كتب العلم أو تنمية الزاد العلمي، عدم انتظام كل أبناء الحركة في الأنشطة التربوية، لانقطاع عدد منهم عن البرامج التربوية، أو تعثرهم في ذلك، تنامي الاهتمامات الدنيوية والمعاشية، وطغيان الميول الاستهلاكية”.
وما كان عندي من غرض بـحزب العدالة والتنمية من حيث هو حزب، حتى أنتقده لذاته، فالأحزاب في الدنيا كثير وليس ذلك من اهتماماتي. وإنما كان غرضي متعلقا بالعمق الاستراتيجي للعمل الإسلامي.
ولذلك فالكلام عنه جاء تبعاً لا أصالةً. فالحزب هو أحد إفرازات العمل الإسلامي بالمغرب. وهو، أحببنا أم كرهنا، تجربة محسوبة على حركة التوحيد والإصلاح، ارتهن بها وارتهنت به في سياق جدل الفصل والوصل.
خاتمة في قصة هذا الكتاب بقيت كلمة في سبب تأليف هذا الكتاب. وقد ذهبت الظنون ببعض أصحاب المقالات المنشورة في الأنترنيت مذاهب عجيبة، والقضية ببساطة أنه لم تكن ثمة نية لكتابته بهذا الشمول أصلا، وإنما القصد كان قديما ومستمرا في كتابة ورقات في نقد العمل الطلابي بالجامعة.
وكنت أتحدث في نفسي ومع بعض إخواني عن الأخطاء الثلاثة للعمل الطلابي ولم يتيسر لي ذلك زمنا. وأنا ما زلت أُدَرِّسُ بالجامعة، وأزور مواقعها هنا وهناك، ألاحظ تواتر الانهيار الخلقي والمنهاجي للعمل الطلابي بشتى توجهاته الإسلامية. فتزداد الرغبة رسوخا في كتابة الورقات نصحا لله وللمؤمنين.
لكنني عندما سنحت الفرصة وجدتني غير منطقي في كتابتي، ذلك أن هذا القطاع إنما هو وليد تصورات أشمل، ونتاج منهاج أعم، هو منهاج الحركة التي أفرزته، فاتجه النظر آنئذ إلى نقد الأصل قبل الفرع فتناسلت الذاكرة، وسال الجرح من جديد، فكان من قدر الله ما كان، والله المستعان.
سيدي أحمد، كم كنت أود لو استفدت منك حقيقة في نقد الكتاب، ولكن غضبك أبقاك حبيس فعل واحد هو الدفاع عن حركة واحدة وعن حزب واحد، والحال أن أغلب ورقات الكتاب، بل أكثر من ثلثيه هو في نقد ظواهر أخرى للعمل الإسلامي بالمغرب.
وكم كنت أود أن أستفيد منك في نقد جوهر الكتاب فيما أسميته بالأخطاء الستة من أمور التصورات المنهجية، لكن ردك مع الأسف كان ردا سياسيا أكثر مما كان ردا علميا. ولعلمك يا سيدي إن هناك ما يشبه الإجماع من المؤالفين والمخالفين، وأغلبهم من أبناء الحركة، على صحة أغلب ما ورد في الكتاب، اللهم إلا نقدا مستفيضا سمعته من كثير من الإخوة لمسألتين اثنتين: الأولى حول الظرف والتوقيت الذي صدر فيه الكتاب، والثانية حول شكل الإخراج غلافا وأسلوبا.
وأستغفر الله من ذلك، قبل ذلك وبعد ذلك. وإلا فلا أحد اعترض على مضمونه النقدي، ولا على حقائقه المتواترة، وخاصة منه استمرار منهج المناورة في تدبير السير الحركي، وهذا لا يغرني بحول الله وإنما العجب ممن يغطي أشعة الشمس بالغربال. ومع ذلك أقول “وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ”.
يا سيدي أحمد، لقد قاتلتَ قتالا مريراً في ردك عليَّ لكنك لن تجدني إن شاء الله على جبهة حربك، كما يحب الذين أرادوا أن يتترسوا بك، وإني لأعوذ بالله أن أتخذ مثلك من أهل الفضل خصما وإن كنتُ لست ملزما بأن أرى الأشياء بعينك، ولا أن أسمعها بأذنك. ويؤسفني أن أقول لك: إن نظريتك في “التقريب والتغليب” كانت حاضرة في ردك عليَّ من جانب واحد فقط، أما “التغليب” فقد رأيته، وأما “التقريب” فلم أر منه شيئا، لقد كنتُ أعتقد أنك يا سيدي أحمد أكبرُ أفقاً من حزب وأوسع صدراً”.
ما أحوج أبناء العدالة والتنمية وحركة التوحيد والإصلاح إلى سماع نصيحة الدكتور الراحل فريد الأنصاري، وقبله نصائح الغيورين على تجربة الحزب والحركة وهم يرونهما يغوصان في وحل السلطة الذي يظنونه عسلا.