شوف تشوف

الرأي

ولادة المنهج الديكارتي

بقلم: خالص جلبي

 

 

 

 

 

كان ديكارت يطمح إلى الوصول إلى الوثاقة واليقين التي تتمتع بصلابتها الرياضيات، بحيث يؤسس بقية العلوم على هذه القاعدة من اليقين، وكان كتابه «المقال على المنهج» في إطار توليد اليقين من أرضية الشك.
كان الشك الذي استولى على عقل ديكارت كبيرا رهيبا، بحيث قاده إلى قطيعة معرفية مع عقلية العصور الوسطى؛ فشطَّب دفعة واحدة الآراء المسيطرة في المجتمع.
وشق الطريق إلى اعتماد المحاكمة العقلية سبيلا للفهم أكثر من الآراء المسيطرة، فليس هناك من وسيلة لقتل العقل مثل التقليد واتباع آراء الآباء، كما نعى ذلك القرآن على كفار قريش (إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون)، ومضى به الشك كما حصل مع الإمام الغزالي سابقا، حينما اهتزت عنده حتى الضروريات والمحسوسات.
كان يخاطب نفسه إذا كان كل الشعور موجودا في المنام ولا يزيد المنام أن يكون وهما كاملا! فما الذي يضمن لي أن لا تكون الحياة برمتها نوعا من الوهم الخادع على صورة منام كبير؟
وإذا كانت الحواس تخدع، والمعرفة تأتي عن طريق الحواس، فكيف يتأتى لي أن أصدق هذه المعلومات المتدفقة إلى عقلي وطريقها هو الحواس؟ استمرت رحلة الشك حتى مرض الغزالي؛ فكاد أن يهلك كما روى في كتابه «المنقذ من الضلال»، وأما ديكارت فلم يمت ولكن دماغه كاد أن ينفجر في ليلةٍ حاسمة
غيَّرت مجرى حياته بالكامل، في شتاء قاس، وحرب الثلاثين عاما الطاحنة تزهق أرواح الناس على الأرض الألمانية. 


ليلة ديكارت التاريخية
ابتدأت حرب الثلاثين عاما الدينية على الأرض الألمانية في عام 1618م، ولم تنته إلا عام 1648م، بعد ثلاثة عقود كاملة قتل فيها الملايين من الناس من كلا الجانبين والمذهبين، من البروتستانت والكاثوليك، وعم الخراب، وانتشرت المجاعة، وتحولت ألمانيا إلى أنقاض اشتركت فيها جيوش شتى من كل القارة الأوربية، ولم تُترك فظاعة إلا ارتكبت، على عادة الحروب الأهلية.
ولكن أشد من عانى يومها، كان الشعب الألماني الذي مات منه ذبحا قرابة الستة ملايين ونصف المليون، من أصل تعداد سكان يصل إلى عشرين مليونا فقط، مما اضطر الكنيسة يومها إلى استصدار قرار
اشتهر بقرار نورمبرغ، أباحت فيه تعدد الزواج استنادا إلى قصص العهد القديم، لتعوض النسل المنقرض، ولم تنتعش ألمانيا إلا بعد مرور ثمانين عاما.
ويصاب الإنسان بالعجب إلى حد الانبهار، كيف تولدت أفكار المنهج عند ديكارت في جو حروب أهلية واضطرابات من هذا الحجم؟
ففي هذا الجو الجهنمي العجيب يروي ديكارت قصة عجيبة؛ عندما أجبرته الثلوج والبرد على الاحتماء طيلة الشتاء إلى غرفة دافئة، لا يعكره فيه هوى ولا هم أو حزن، حتى كانت ليلة عمد فيها إلى التفكير؛ فكاد دماغه أن يحترق من وهج التفكير (كما يروي)، ثم جاءه ما يشبه الوحي من التفكير، بحيث انفتحت أمام بصيرته
الطريقة الجديدة في قيادة العقل إلى الأحكام الصحيحة.
إن ديكارت عندما شك في كل شيء وصل إلى طرح هذا السؤال: إذا كنت أشك في كل شيء، فهل هناك شيء ولو كان وحيدا منفردا لا أشك فيه يقينا؟ كانت اللمعة العجيبة التي التمعت في ذهنه: نعم قد أشك في كل شيء، ولكن الشيء الذي لا أشك فيه يقينا هو أنني أشك، والشك تفكير، فهناك إذن حقيقة أساسية هي أنني أفكر لأنني أشك، وعندما أفكر فأنا موجود، على صورة من الصور، أي إن هناك حقيقة لوجودي على شكل من الأشكال، فحقيقة التفكير تعني أني موجود على صورة من الصور.
ومن هنا أطلق ديكارت عبارته التاريخية: أنا أفكر أنا موجود.
هذه الفاتحة المدهشة في نقلة عقلية بسيطة، ولكنها في مثل ثقل الجبال، هي التي ساقته في ما بعد إلى تأسيس الفكر المنهجي التحليلي اللاحق، الذي اشتهر به، عندما أرسى المربعات الفكرية الأربعة المعروفة:
ـ لا أقبل شيئا ما لم يكن في غاية الوضوح.
ـ كل قضية مركبة تحلل إلى عناصرها الأولية.
ـ بعد حل العناصر البسيطة يعاد تركيب القضية.
ـ تجرى عمليات النقد الذاتي والاختبار للتأكد من كافة مراحل العمليات العقلية لإحكام ضبطها. 

 

طنين الذبابة وانبثاق الهندسة التحليلية:
في ضاحية باريس عمد مفكر لاهوتي هو (مارين ميرسينMARIN MERSENNE) في مطلع القرن السابع عشر، إلى عملٍ لم ينتبه إليه أحد، ولكنه كان مثل الزلزال للعقلية الأوربية، حيث كان يعمد إلى عقد اجتماعين أسبوعيا يعقد فيهما خيوط الاتصال بين أهل الفكر الحر في أوربا.
وفي مجلسه العلمي المتواضع اجتمعت خيرة العقول الأوربية الحرة في ذلك الوقت، لتنتشر منها موجات التنوير بدون توقف.
هذا العمل كان مثل تحركات القارات الجيولوجي، ويعني للمفكرين أملا لا ينضب في إمكانية تحسين التفكير الإنساني.
كان ديكارت لا يكف دماغه عن العمل في كل مكان، وعندما أزعجه طنين الذبابة بدأ في التفكير عن احتمالات وجودها، فقاده هذا التفكير إلى وضع قواعد المخطط البياني والهندسة التحليلية، التي أصبحت أحد أعمدة الرياضيات حتى وقتنا الحالي.
يقول جاك بيرج، صاحب كتاب «عندما تغير العالم»:
(ومن الطريف والمثير أيضا أن تحدث قصة بسيطة ذات يوم أثناء الاجتماعات التي كانت تعقد في صومعة الراهب ميرسين مرتين أسبوعيا، لتسهم إسهاما مهما في التفسير الرياضي لتسيير الكون، فجرتها مجرد ملاحظات شخصية، فقد سمع ديكارت طنين ذبابة تطير في المكان الذي كان يعقد فيه الاجتماع.
أخذ ديكارت يفكر في موقع الذبابة؛ فتصور موقعها لابد أن يكون تحت نقطة يتقاطع عندها في زوايا قائمة خطان، أحدهما خارج من الاتجاه الجانبي، والآخر من أسفل.
هذان المحوران يعطيان محورين إحداثيين لتحديد موقع الذبابة في أي وقت، ويمكن قياس بعدهما باستخدام إحداثيين متعامدين وفي مستوى واحد، وهذا النظام الجديد للأحداث الرياضية هو ما نسميه اليوم بالخط البياني) 


جمجمة ديكارت وعظامه الناقصة
حتى يثبت الدكتور والصحافي (آيكه بيس) مزاعمه حول تسمم ديكارت، قام برحلة بحث حول بقايا عظام الفيلسوف بعد مرور ثلاثة قرون ونصف القرن على بلاها؛ فتبين له أن عظامه وصلت ناقصة إلى فرنسا بعد دفنه في السويد عشية وفاته، حيث تم استخراجها من جديد ودفنها عام 1666م مرة أخرى في كنيسة القديس جرمان دي بري، ولم يُنتبه إلى أن الهيكل غير كامل إلا بعد فتح التابوت عام 1819م، ولم تصل الجمجمة لتوضع في المتحف الإنساني في باريس إلا في عام 1878م.
يقول الدكتور بيس عندما وضعت يدي على جمجمة الفيلسوف، أردت أن أغامر فأقوم بكحت العظام وأخذ عينة منه لكشف آثار الجريمة، فالزرنيخ المعدني لا تخيب آثاره في الكشف عنها ولو بعد قرون، ولكن جرأتي خانتي في مشهد من هذا النوع.
وأما تتمة قصة الرسالة فَعُرف أن الملكة كريستينا قامت بحملة سياسية لإعلان موت الفيلسوف، أن سببه كان التهاب رئوي صاعق، وعندما علمت بأمر رسلة طبيب البلاط قامت بمصادرتها، وأحيلت إلى الأرشيف الملكي، ليكشف النقاب عنها بعد تطاول القرون، في أرشيف جامعة ليدن التي حفظتْ الوثيقة. 


التصفية الجسدية لأهل الفكر
جرت العادة في العصور الوسطى أن يتم التخلص من مقلقي النوم العام (كذا؟)، فأي فكرة تطرح يجب أن لا توقظ نائما ولا تزعج مستيقظا، فإذا انتشرت الفكرة اعتبر صاحبها من المفسدين، فالتهمة التي وجهت إلى موسى عليه السلام أنه (يظهر في الأرض الفساد)…
أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وإلهتك.
وكانت العادة تجري بعزلهم عن فكر المجتمع في ثلاث صور، فإما النفي أو السجن أو التصفية الجسدية (ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله).
وينطبق على صاحب الفكر قانون الدجاجة المجروحة، فعندما تكتشف الدجاجات أن إحداهن مجروحة؛ تُهرع إليها فتنقر مكان الجرح النازف حتى الموت، ولكن القدر التاريخي يبدو أنه يسير في مسرى آخر، في غير هذه الصورة القاتمة، بل إن التغير الاجتماعي يحدث ضمن دورة مختلفة، ترسي في النهاية لصالح الفكر التغييري الأصلح، ضمن جبروت القانون الإلهي بأن الزبد يذهب جفاءً وما ينفع الناس يمكث في الأرض.
ودفاع المجتمع عن أفكاره مبررٌ في قسم منها وإلا تعرض المجتمع لهزات لا نهاية لها مع نزوات البشر بدون نهاية، ولكن صمود وأحقية الفكر التغييري، هو الذي يعطيه طاقة الصمود والتحدي والصبر حتى تجاوز معصرة المحنة والتطهر من خلالها، ونقل المجتمع إلى عتبة جديدة أكثر تقدمية.
وأيا كانت صحة قصة تسميم ديكارت فالتصفية الجسدية لأهل الفكر ليست جديدة، حتى أن القرآن عندما أشار إلى نفي الصلب عن المسيح، كان ـ في تقديري ـ ينطلق من خلفية أهم من كونه مات على الصليب أو قُتل بطرق أخرى، فالقرآن يشير إلى أن كثيرا من الأنبياء قتل، وليست جديدا محاولة صلب أحد الأنبياء (وقتلهم الأنبياء بغير حق).
في تقديري كانت حركة القرآن لنفي قصة الصلب، وصولا إلى تحييد العقيدة التي قامت عليها قضية الصلب: أي التثليث وألوهية المسيح، أكثر منها لنفي الطريقة التي قتل فيها، بسبب ارتباط العقيدة بطريقة القتل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى