وقائع الإرث الأمريكي حيال الجولان
أنطوان شلحت
لم تعتبر جل التحليلات الإسرائيلية تصريحات وزير الخارجية الأمريكي الجديد، أنتوني بلينكن، بشأن الجولان تراجعا عن الإرث الأمريكي الداعم للاحتلال الإسرائيلي هذه الهضبة الاستراتيجية، بقدر ما اعتبرتها تحفظا على قانونية قرار الإدارة الأمريكية السابقة الاعتراف بالسيادة الإسرائيلية عليها، لم يحن أوان حسمه إلى هذه الناحية أو تلك. ولذا هو لا يرقى إلى مستوى التهديد القانوني حتى. ورأت التحليلات كذلك أن هذا التحفظ لا يُضعف التأييد الأمريكي التقليدي لماهية الموقف الإسرائيلي إزاء الجولان، فضلا عن أنه تحفظ تبقى فاعليته مرهونة بـ«تغير الوضع في سوريا.. لكننا لسنا قريبين من ذلك». كما أكد المسؤول الأمريكي مضيفا «أن الجولان مهم للغاية لأمن إسرائيل من الناحية العملية. وطالما أن الطاغية بشار الأسد في السلطة، وأن إيران موجودة في سوريا، وطالما أن الميليشيات المدعومة من إيران ونظام الأسد نفسه تشكل تهديدا أمنيا كبيرا لإسرائيل، فإن السيطرة على الجولان في هذا الوضع لا تزال ذات أهمية حقيقية لأمن إسرائيل من الناحية العملية».
على خلفية أقوال كهذه، ثمة ما يستلزم استعادة وقائع الموقف الأمريكي إزاء مسألة أهمية الجولان لأمن إسرائيل. وإن أول ما يطالعنا أنه موقف لم يتغير منذ أكثر من 45 عاما، وتبلور بادئ ذي بدء عبر الرسالة التي تلقاها رئيس الحكومة الإسرائيلية الأسبق، إسحاق رابين، عام 1975 من الرئيس الأمريكي آنذاك، جيرالد فورد، وفيها: «تدعم الولايات المتحدة موقفا فحواه أن اتفاقا شاملا مع سوريا، في إطار معاهدة سلام، يجب أن يضمن أمن إسرائيل من هجمات تشن من هضبة الجولان. كذلك تدعم الولايات المتحدة الموقف الذي فحواه أن السلام العادل والدائم، الذي لا يزال الهدف الذي نسعى إليه، يجب أن يكون مقبولا من كلا الطرفين. إن الولايات المتحدة لم تبلور موقفا نهائيا من مسألة الحدود، وحينما ستفعل ذلك ستمنح وزنا كبيرا لموقف إسرائيل القائل إن أي اتفاق سلام مع سوريا يجب أن يشمل بقاء إسرائيل في هضبة الجولان».
في عام 1991، على أعتاب انعقاد مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط، كتب وزير الخارجية الأمريكي، جيمس بيكر، رسالة إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية آنذاك، إسحاق شامير، جدد فيها ما ورد في رسالة فورد السالفة. وكذلك وجه وزير الخارجية الأمريكي، وارن كريستوفر، عام 1996 رسالة مماثلة إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، تعيد الالتزام بما نصت عليه رسالة فورد. وجاءت إثر بدء اتصالات بين إسرائيل وسوريا برعاية أمريكية في بدايات تسعينيات القرن الفائت، أعرب فيها رابين على مسامع كريستوفر عن استعداده للانسحاب من هضبة الجولان في إطار اتفاق سلام مع سوريا، فيما عرف لاحقا باسم «وديعة رابين». وفي صيف 1996 طلب نتنياهو، إبان ولايته الأولى في رئاسة الحكومة، من مستشاره السياسي، دوري غولد، فحص مكانة تلك الوديعة لدى المسؤولين الأمريكيين، وخصوصا بعد أن أكد وجودها شمعون بيريز، الذي تولى رئاسة الحكومة الإسرائيلية مؤقتا بعد مقتل رابين. وبعد فحص مع كريستوفر، أوضح الأمريكيون للجانب الإسرائيلي أن الوديعة لا تحمل أي صبغة رسمية، وكانت شفاهية، وتتطرق إلى سيناريو افتراضي، ولذا هي ليست ملزمة. وطلب نتنياهو من الإدارة الأمريكية التزاما مكتوبا بمضمون رسالة فورد، يكون ممهورا بتوقيع وزير الخارجية. وبعد أسابيع قليلة، أرسلت واشنطن التزاما كهذا وقعه كريستوفر، وأرفق أيضا بوثيقة مكتوبة أخرى، يقر فيها الأمريكيون بأن «وديعة رابين» تفتقر أي مكانة ملزمة.
هكذا ما زالت رسالة فورد المرجع المؤسس للإرث الذي تلتزم به الولايات المتحدة بشأن الجولان، ولا نحتاج إلى عناء كبير لنستنتج أن إعادة إنتاجه كانت منضفرة على نحو جلي في تصريحات بلينكن، ولو على شكل تأويل من شأنه أن يبدد إثارة أي مشاعر قلق إسرائيلية من تحفظه القانوني، الذي لن يسري مفعوله في إشعار قريب.