وزان
شامة درشول
لم أولد في وزان، لكنها ولدت في، وترعرعت، حتى باتت منارة البحار الذي تقوده إلى بر الأمان كلما تاه في هذا العالم الكبير. حرص والدي على أن نتشرب من تقاليد وزان، كان يحملنا إليها لنزور منزل عمي وأبنائه، ويمر بنا إلى حيث كان منزله وهو طفل، يشير بأصبعه إليه وهو يقول: «هنا ولدت، هنا كانت تقيم جدتك شامة، وجدك التهامي».
يحكي والدي أن جدي كان فقيها، حافظا للقرآن، كعادة أغلب سكان دار الضمانة، البلاد التي يتباهى أهلها بأنه لا يدخلها سلطان إلا وقد خلع نعليه، وأنها المدينة التي لم تحتج أسوارا، فحفظة القرآن المنتشرون في كل مكان فيها، وأضرحة الأولياء الصالحين المدفونين على أرضها، تحرسها، وتحرس أيضا كل من يلجأ إليها طالبا الأمان، ليس فقط من الجوار، أو من البلاد، بل حتى من خارج حدود المغرب. فوزان، أو دار الضمانة، كانت أكبر زاوية في كل شمال إفريقيا، وكان أولياؤها الصالحون يشد إليهم الركاب، لهذه المدينة التي كانت سميت ذات عهد بـ«لوبتي باري»، أو «باريس الصغيرة»، وكانت أيضا تشبه مدن سويسرا، لجمال الطبيعة فيها وهدوئها، تاريخ كبير ومشرف. أهلها عرفوا بأنهم بارعون في القانون، والقضاء والتعليم، ونساؤها أيضا برعن في عدة مجالات، وكان الفقه أيضا واحدا منها، وليس صدفة أن السيدة رجاء مكاوي ابتعثت سفيرة باسم المغرب إلى الفاتيكان. فأهل وزان الذين تربوا على التقاليد، والأعراف وحفظ القرآن، نشؤوا أيضا بين عائلات يهودية ومسيحية، وإلى اليوم لا يزال اليهود المغاربة يحجون من بلدان العالم إلى وزان ليقيموا «الهيلولة»، ويزوروا أولياءهم الصالحين.
كان والدي دائما يتحدث عن اليهود والنصارى، لم أسمعه يوما يذم أحدا منهم، كان يردد ما تعلمه من جدي، ويعدد محاسنهم، وكثيرا ما صحب أصدقاءه المسلمين وزوجاتهم اليهوديات، والنصرانيات إلى المنزل، نجلس إليهم، نشاركهم طعامنا، ويشاركوننا أسرارهم، وكثيرا ما رددت زوجة عمي أن أهل والدي أتوا من وراء البحر، واستقروا في هذه المدينة الصغيرة، وتطبعوا بطباع أهلها. كانت زوجة عمي تشير إلى أصول والدي الموريسكية، كثيرا ما كان يطيب لها أن تفعل وهي تحضر طبق «الميكاز»، الطبق نفسه الذي لا يزال أهل الأندلس يعدونه لضيوفهم التقليديين، خبز مجفف، ومرق ببصل وعدس، يمازح والدي أمي قائلا: «لعروبية يسمونه «رفيسة لعميا»، لكن نحن أهل وزان نسميه «ميكاز»». كان والدي لا يشير إلى أصوله الموريسكية إلا نادرا، حين يسأل عن أصل لقب «درشول»، أو يسأله أحد عن سر لون عينيه الرماديتين، وبشرته الشقراء، وإخوته الذين يشبهون الأوروبيين، وكأن والدي كان يحاول أن ينسى من أين أتى أجداده، لكن زوجة عمي «للا خدوج»، كانت حريصة على ألا ننسى.
يوم قرأت خبر تفكيك خلية إرهابية، وأن الإرهابيين الملقى عليهم القبض كانوا يخططون لإقامة مقر دولتهم في إحدى ضواحي وزان، اهتز قلبي، فوزان هاته التي يتحدثون عنها ليست هي وزان التي أعرف، ليست هي وزان التي نشد إليها الرحال مرة في السنة حتى وقد فرغت من أهلنا فيها، لا نزال حريصين على زيارتها، والتوجه إلى الزاوية، وزيارة ضريح مولاي عبد الله الشريف، وطلب «شرفاء الزاوية» رفع الدعاء، ونفحهم ببعض المال، والعودة من حيث أتينا. فوزان لا أعرف منها سوى الزاوية، ومنزل عمي، ذاك المنزل الفسيح، الذي كانت أبوابه تفتح على مصراعيها من الساعات الأولى للصباح، ولا تقفل إلا في منتصف الليل. تستقبل زوجة عمي طوال اليوم الضيوف، بيت عمي لا يقفل، فالضيوف يحملون البركة، تقول زوجة عمي «للا خدوج»، وهي تضع «لمقراش» فوق «لمجمر»، على كل من يلج دار عمي أن يكون مستعدا لمشاركة أهل المنزل الصلاة حين موعدها، حتى أني كثيرا ما مازحت للا خدوج وقلت لها: «إن الحياة في وزان خالية من الذنوب، فكل ما تفعلونه طوال اليوم هو الوضوء، والصلاة جماعة، والأكل جماعة، وقص الحكايات، والضحك، وأنتم تتناولون طعامكم مع الغريب والقريب».
ما الذي حدث بوزان وأهلها حتى فكر همج، رعاع، بتحويلها إلى مقر للقتل، والذبح، وطيور الظلام، وهي التي أنارت قلوب المؤمنين، وحج إليها الأتراك والروم، والعجم والعرب، طالبين البركة والأمان في كل ركن من أركانها؟
سؤال قد أجد له عدة أجوبة وليس جوابا واحدا، فالمدينة أهملها أهلها، والمسؤولون عن تدبيرها، والبطالة تخنق شبابها، ولا أفق أمام من يقيم بها، ورغم أنها تملك كل المؤهلات لتتحول إلى مدينة رمز للسياحة الدينية في المغرب، والعالم أيضا، إلا أن وزان ستظل دوما كما كانت، المدينة التي يراها أصحاب السلطان متمردة، عصية عن الإذعان، وهو ما على حملة الظلام هؤلاء أن يفهموه، وأن يفهموا أن وزان كانت دار الضمانة، وستظل دوما دار الضمانة.